[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
تذكرت أننا في السنة السابعة للمؤامرة على سوريا، كما تذكرت أن محمود درويش مات منذ عشر سنوات، وأن جمال عبدالناصر مات في 27 سبتمبر 1970، وحافظ الأسد في العام 2000، وأن فلانا وفلانا توفي يوم كذا وسنة كذا، فما معنى أن تعيش سوى ملء الذاكرة بالمعلومات والأرقام، وهيهات لها أن تفرغ أن استطعت.
ثم أن جيلنا امتلأ رأسه بالأسماء والأرقام، بالقادة وبالأحداث، وكل يوم زيادة في العمر يعني مزيدا من إفراغ جديد في خزان الذاكرة. مرة قال لي الشاعر العربي العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري "ذاكرتي هي مشكلتي"، فلما استفسرت إذا كان سلبا أو إيجابا، أجاب بأنها تتعبه من كثرة ما يتذكر.
هي عالمنا وحياتنا وطلتنا على الماضي والحاضر والمستقبل .. حين انفجر دماغ عاصي الرحباني وفقد ذاكرته عاد طفلا، لا يعرف أن المطربة فيروز زوجته، ولا زياد ابنه، ولا منصور شقيقه، ولا شيء آخر، عاد للحظة الولادة وعليه أن يتعلم من جديد ما بدأ به حياته، وهيهات!
بقدر ما هي نعمة، فهي أيضا نقمة، يمكن للحاسوب (للكمبيوتر) الشبيه بالذاكرة أن تمسح كل ما فيه من معلومات، لكن ذاكرة بني آدم رافقته حتى اللحظة الأخيرة من عمره، لا يمكن مسحها بأي شكل من الأشكال أو بأية طريقة، إلا عندما يعتدي العمر المتقدم على الشخص فقد يصيبه الزهايمر أو فقدان الذاكرة، عندها يرتاح، ولا أدري إذا كان سيرتاح وهو صار لا شيء سوى كتل من اللحم والعظم، لا يعرف بل يتعرف، لا يشعر بالجوع إلا إذا تم إطعامه، لا يشعر أبدا بحاجات جسدية مثل كل الناس السويين.
أخبرني أحد الأصدقاء التونسيين أن الرئيس بورقيبة حين فقد ذاكرته بعدما تقدم في العمر، صار لا يعرف من هم وزراؤه، يعينهم وبعد دقائق ينساهم فيعين غيرهم ثم ينساهم وهكذا.
ومن عظمة الخلق، أن مركز الذاكرة في الدماغ صغير جدا، فكيف يستوعب كل هذا التاريخ الطويل الذي ينطبع ويعيش كل العمر، وتكاد صوره أيضا مطبوعة بكل ألوانها وأشكالها وحركاتها. أنا مثلا أتذكر أشياء كأني ألمسها من جديد لشدة ما هي مؤثرة في ذاكرتي.
وعلى سبيل المثال، أحتفظ ببيتي بصورة لجمال عبدالناصر، ما أن أنظر إليها ولو بغير قصد، حتى أكاد أسمع صوته وخطاباته ونكاته أحيانا وهجومه على هذا وذاك، بل يتردد في سمعي أغنيات وطنية تخصه بالذات، فأرددها أحيانا دون انتباه، هكذا تصبح الذاكرة أيضا هي الشخصية ذاتها.
اليوم مثلا، عندما أرى صورة الرئيس بشار الأسد في التلفاز، تأخذني ذاكرتي إلى الأسابيع الأولى من المؤامرة على سوريا وكيف كنت خائفا بل مرعوبا من غيابه إذا حصل .. أتذكر أني كنت أعد الأيام والشهور كي تمر بسرعة لكي تنقلب صورة الواقع الذي كنت أقرأه وكم كان مخيفا في بداياته.
ثمة نوع من الذاكرة التي ترى في القادم من الأيام وتسجلها وكأنها وقعت بالفعل. الخوف على من نحب يصبح قراءة متقدمة لما يجب عليه فعله لحمايته.
نحن إذن نصنع ذاكرتنا كي نظل أحياء، خسرانها يعني الموت حتى لو ظل الجسد حيا متحركا. رأيت أصدقاء فقدوا ذاكرتهم، كيف تحولوا إلى مجرد لحم متراكم، ثم كيف وصل ببعضهم إلى عدم القدرة على الطعام مما اضطر الطب إلى التدخل بفتح طريق جديدة إلى معدته ومع ذلك فهو بالتأكيد لا يعرف أنه يأكل.