قراءة في مؤتمر حول «الدور الحضاري لعُمان في وحدة الأمة» بماليزيا

اللغة العربية:
إن سكان منطقة جنوب شرقي آسيا لمّا دخلوا في دين الله أفواجا، أخذوا يتعلمون كتاب الله ويتدارسونه، كما تدارسوا سيرة رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم، ولمّا كان كتاب الله أنزل بلسان عربي مبين كان دائما ما يرتبط المسلمون باللغة العربية ويتعلمونها منذ صغرهم، وهذا ملاحظ حتى يومنا هذا في معظم مناطق المسلمين غير المتحدثين باللغة العربية، فتجد مدارس القرآن تعلم اللغة العربية، وهذا أيضا يُحتمل حدوثه في منطقة جنوب شرقي آسيا، فقد أقبلوا على اللغة العربية، كما كانت لغات تلك المناطق تكتب بالحروف العربية إلى وقت قريب قبل أن يتدخل المستعمر ليزجّ بالحروف اللاتينية بدلا من العربية ، ورغم ذلك إلا ان هناك من لا يزال يكتب بالحروف العربية في لغات بعض تلك البقاع، ومثل ذلك في اللغة الاتشهينيزية بسومطرة التي تستعمل الأبجدية العربية، كما أدخلت في بنيتها مفردات عربية عديدة متعلقة بالفقه والفلسفة والدين وألفاظ عامة.
هذا وقد عثر في شبه جزيرة الملايو على مقابر قديمة للمسلمين تحمل نقوشاً عربية ‏وخصوصاَ في جاوة. كما قيل بأن اسم ملقا أطلقه العرب لأنها مكان يلتقي فيه تجار الشرق مع التجار العرب خاصة العمانيين منهم الذين وكما ذكرنا كانوا هم غالبية التجار العرب في تلك الفترة.
التأثيرات العمرانية والاجتماعية:
‏كان التجار العمانيون يقيمون في المدن الكبرى ويؤسسون المراكز التجارية المهمة، مما ‏أتاح لهم فرصة الاحتكاك المباشر بأهل البلاد فساهموا بشكل كبير في نشر الإسلام في ‏أرخبيل الملايو، فقد أسسوا مستوطنات لهم وعملوا تجارا ووكلاء في تلك المناطق الغنية بالسلع المختلفة.
ويمكن القول بأن منطقة جنوب شرقي آسيا وخاصة المراكز التجارية فيها، خاصة في الملايو وسومطرة التي يوجد بها مستوطنات للتجار العمانيين كجاليات مستقرة على طريق الحركة التجارية بين عمان والصين، خاصة بعد حدوث الإنقلاب على أسرة تانج الحاكمة بالصين، مما أحدث قلاقل ومذابح ضد السكان الأجانب، وفرض عليهم المزيد من الضرائب، فمن المحتمل بأن الكثير من الجاليات العربية قد انتقلت إلى جنوب شرقي آسيا، ليسهل عليها إدارة تجارتها القائمة على التبادل التجاري مع الصين، وتجمع المصادر التاريخية بأن مدينة ملقا (كله بار) أصبحت هي ملتقى التجار العمانيين والصينين في تلك الفترة.
ومن الشواهد على المؤثرات العمرانية العمانية في جنوب شرقي آسيا وجود مساجد بنيت على الطراز المعماري العماني البسيط والذي يتميز بعدم وجود نقوش وزخارف، ويعود ذلك إلى تشديد علماء الإباضية العمانيين في التحذير من تزيين المساجد. يقول العلامة العوتبي الصحاري عن المساجد:»لا تبنى بالتصاوير ولا بالقوارير... ولكن زينتها نظافتها وتعظيمها بالذكر».
الاقتصاد:
نتيجة للصلات والمبادلات التجارية المستمرة بين عمان وجنوب شرقي آسيا، يتبين من خلال مرويات المؤرخين أن حجم تلك التجارة كان عظيما، اذ يؤكد صاحب كتاب عجائب الهند نقلا عن أحد التجار والملاحين العمانيين يسمى إسماعيلويه بن ابراهيم بن مرداس الناخوذة العماني بأنه أقلع من « كله بار « – ميناء بالملايو- إلى عمان سنة 317 هـ في إحدى وأربعين يوما، وأن أمير عمان أخذ ستمائة ألف دينار عشورا وحده، وأعفى بقية التجار الذين كانوا معه في مائة ألف دينار، وهذا الرقم الكبير يوحي لنا بأن حجم تلك التجارة كان كبيرا جدا، فحجم العشور(الضرائب) التي يمكن توقعها بأنها تفرض أيضا على التجار العمانيين في ميناء (كله بار) و(صندابور) بالملايو قد يقترب من هذا الرقم أيضا، مما يدلل على استفادة تلك المناطق من التجارة العمانية بشكل كبير، إن لم يكن معظم اقتصادها كان قائما على تلك التجارة الرائجة، وأيضا من خلاله يمكن القول أن تجار عمان في تلك الفترة التاريخية كانوا من أغنى تجار العالم، وما الاهتمام بموقع عمان ومحاولات الدولتين الأموية والعباسية المتكررة للسيطرة على عمان إلا كان الطمع بهذا الثراء الواسع لتجارة عمان الخارجية أحد دوافعه وأسبابه.
أما عن السلع المتبادلة بين عمان وجنوب شرقي آسيا فيذكر السيرافي بأن ميناء كله بار تقع في منتصف الطريق بين عمان والصين، وتعد مصدرا مهما لإنتاج الخيزران والذي يتم توريده إلى المناطق العربية في عمان والعراق وغيرها من مناطق العالم المختلفة، كما يشير الحميري بأن التجار المسلمين والصينين يتجمعون بها، وإليها تتجهز السفن من عمان، كما تجلب منها أصناف عديدة من السلع مثل الطيب والرصاص القلعي والأبنوس والبقّم (شجر من نوع القرنيات الفراشية ورقه كورق شجر اللوز، وساقه حمراء). كما كان العمانيون يتاجرون بالتمور والأسماك والذهب والتوابل والأحجار الكريمة وأنواع الحبوب والحرير الأقمشة، والأقطان، والعطور، وخشب النارجيل اللازم لصناعة السفن، وغير ذلك من المواد الزراعية والصناعية وغيرها الكثير من الكماليات والتي يحتاجها ملوك العالم وأثريائه آنذاك.
نتائج البحث:
خرج هذا البحث بجملة من الاستنتاجات نوجزها في الآتي:
قدم الصلات الحضارية بين عمان ومنطقة جنوب شرقي آسيا، إذ تعود إلى ما قبل الإسلام بفترات طويلة
ازدهار العلاقات العمانية مع منطقة جنوب شرقي آسيا في العصور الإسلامية الأربعة الأولى، وذلك بسبب التعاليم الإسلامية الآمرة بالعمل والدعوة إلى الله، والحماية التي وفرتها الإمامة الإباضية للتجار العمانيين، والإضطرابات داخل الإمبراطورية الصينية وبالتالي تراجع التجار العمانيين من الصين إلى منطقة جنوب شرقي آسيا، وخاصة إلى موانئ ساحل الملايو كصندابور(من المحتمل انها سنغافورة) وكله بار (ملقا)، وموانئ جزيرة سومطرة (الزابج).
بروز الدور الملاحي والحضاري العماني بشكل فاعل وواضح عن دور غيرهم من الملاحين والتجار العرب، إذ لم يكن للتجار الحضارمة في هذه الفترة أي ذكر، بل وفي فترات تاريخية قديمة كانت السفن المخَّيطة تصدر من عمان إلى اليمن.
تبين عدم دقة ما ذكره المؤرخون المسلمون كالبلاذري والمسعودي من أن السفن التي كانت تصل الصين بالعالم الإسلامي هي سفن صينية ، فقد أثبت الباحث الإنجليزي William Facy أن سفن الصين لم تصل إلى الخليج العربي إلا في القرن السابع الهجري، وهذا يعني بأن تلك السفن لم تكن إلا سفن عمانية كانت تقوم بدور الوسيط التجاري، وكانت مخصصة لتجارة الصين، فما أن تصل إلى موانئ عمان والخليج العربي إلا وتسلك نفس الخط الملاحي راجعة إلى الصين، وبذلك يكون قد أطلق عليها سفن الصين اصطلاحا.
لقد كان التأثير الحضاري العماني على منطقة جنوب شرقي آسيا أقل من التأثير الحضاري العماني على شرق إفريقيا، والصين، والهند، وذلك بسبب طبيعة الأرض والشعب بهذه المنطقة، فطبيعة سطح الأرض كان شديد الوعورة مع كثافة الغطاء النباتي. كما أن اتصال العمانيين بهذه الأمم كان عن طريق السفر إلى الموانيء المهمة وليس إلى داخل أراضي هذه البلدان.
ضعُف الدور الملاحي والحضاري لعمان بعد القرن الرابع الهجري وذلك بسبب ضعف الإمامة الإباضية وبالتالي ضعف الأسطول البحري العماني.
بروز الدور الحضرمي في العلاقات مع جنوب شرقي آسيا بعد القرن السادس الهجري، بسبب ضعف الإمامة في عمان وضعف الدولة العباسية وبالتالي ضعفت تجارة الخليج العربي وازدهرت تجارة البحر الأحمر وخليج عدن، كما توسع هذا الدور في تلك البقاع في القرن الثامن الهجري.
رغم ضعف التواصل الحضاري العماني بعد القرن الرابع الهجري مع منطقة جنوب شرقي آسيا في المقابل ظل التواصل العماني مع شرق إفريقيا نشطا، وذلك لعمق العلاقات العمانية مع شرق أفريقيا بسبب وجود دول عمانية قائمة على سواحل أفريقيا الشرقية كدولة بني الجلندى في لامو ثم دولة بني نبهان في بات.