الحمد الله والصلاة والسـلام عـلى رسـول الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وبـعـد :
فـيقـول الله تعالى في كـتابه العـزيـز: { إن هـذا القـرآن يهـدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الـذين يـعـمـلـون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يـؤمـنـون بالآخـرة اعــتـدنا لهـم عـذابا ألـيما }سـورة الإسـراء 9 ـ10 0
لـقـد وصـف الله تعالى طـريقة تعـلـيـم الله تعالى لـنـبـيـه هــذا الـدين ، وهـذه الشـريعة التي كلـفـه بـتـبـلـيغها للناس جـمـيـعـا ، والتي نسـخ بها جـميع الـشـرائــع المـتـقـدمـة ، فـلا تـكـون شـريعة بـعـد شـريـعـته ، أما الـدين الـذي يتـعـلـق بالـتـوحـيـد والـوحي والـرسالة والـبعـث ومـكارم الأخـلاق فـواحـد ، لا يـتـبـدل ولا يتـغـير مـن شــريـعة إلى أخـرى ، كـما قال الله تعالى :{ شـرع لـكـم من الــدين ما وصى به نـوحـا والــذي أوحـيـنا إليـك وما وصـينا به إبـراهـيـم ومـوسى وعـيسى أن أقـيـمـوا الــدين ولا تـتفـرقـوا فـيه ، كـبر عـلى المشـركـين ما تـدعـوهـم إلـيه ، الله يجـتبي إلـيـه مـن يـشاء ويهـدي إلـيه مـن ينـيـب } سـورة الـشورى 130
أما الـشـرائـع العـملـية الـمتـعــلـقـة بالـعـبـادات والأحـكام فـتخـتـلـف مـن شـريـعـة إلى أخـرى كـما قال الله تعالى :{ وأنـزلـنا إلـيك الكـتـاب بالحـق ، فاحـكـم بـيـنهـم بـما أنــزل الله ولا تـبـع أهـواءهـم عـمـا جـاءك مـن الحـق ، لـكل جـعـلنا مـنـكـم شـرعـة ومنهاجا ولـو شـاء الله لـجـعـلـكـم أمـة واحـدة ولـكـن لـيبـلـوكـم في ما آتـاكـم ، فاســبـقـوا الخـيرات إلى الله مـرجـعـكـم جـميـعـا فـيـنـبـئـكـم بمـا كـنـتـم فـيه تخـتـلـفـون}سـورة المائـدة 48 .
إذن : لـقـد جـاء هـذا الـدين بـما فـيه مـن عـقـائـد وشــرائـع إلى النبي صلى الله عـلـيـه وسـلم بـواسـطة جـبريـل عـلـيـه السلام أمـين الـوحي، الـذي وصـفه الله تعالى بـقـوله :{ عـلمه شـديـد القـوى ذو مـرة فاستـوى}وكأن الله تعالى يـريـد أن ربي رسـوله صلى الله عـلـيـه وسـلم عـن طـريـق الـوحي الـذي يـتـمـثـل في كـلام الله تعالى ، الـذي هــو الـقـرآن الكـريــم وغـيره ، لأن الـرسـول صلى الله عـلـيـه وســلـم يـقـول : ( ألا إني أوتـيـت الـقـرآن ومـثـله مـعـه ) ، ويشـير بهـذا إلى ما يـرشـده الله تعالى إلـيه ، مـن أحـكام وأقـضيـة وبـيان للأمـة .
ذلك لأن الـقـرآن الكـريـم يـحـتاج إلي تفـسـيره وتوضـيح مـعـناه بالسـنة النـبـوية ، كـما قال الله تعالى :{ وأنـزلنا إليـك الـذكـر لـتبين للناس مـا نـزل إليهـم } سـورة النحـل 44، والـذكـر هـو كـلام الله تعالى { الـقـرآن }المـنـزل ، الـذي لا يـزاد فـيه حـرف ولا ينـقـص مـنه حـرف ، والـتـبـيـين هـو ما يفـسـره النبي صلى الله عـلـيـه وسـلم ويـبـيـنه بسـنـتـه ، كما بـين أحـكام الصـلاة ركـوعـهـا وسـجـودها ، و وضـوء هـا وأوقـاتها ، فـقال : ( صـلـوا كما رأيـتـمـوني أصلي ).
نـص الحـديـث : عـن مالك بن الحـويـرث قال : أتـيـنا إلى النبي صلى الله عـلـيه و سـلـم ونحـن شـبـيـبة متـقـاربي الأعـمار، فأقـمـنا عـنـده عـشـرين يـوما ولـيـلة ، وكان رسـول الله صلى الله عـلـيه وسـلم رحـيما رقـيـقـا ، فـلما ظـن أنا قـد اشـتهـيـنا أهـلـنا ، أو قـد اشـتـقـنا سـألـنـا عـمـن تـركـنا بـعــدنا فأخـبرناه ، قال : ( ارجـعـوا إلى أهـلـيـكـم فأقـيـمـوا فـيهـم وعـلمـوهـم ومـروهـم ) وذكـر أشـياء أحـفـظـها : أولا أحـفـظـها ، ( وصـلـوا كـما رأيتمـوني أصلي ، فإذا حـضـرت الصـلاة فـلـيـؤذن لـكـم أحـدكـم ولـيـئـمـكـم أكــبركـم ). أخـرجه البخاري حـديث رقـم ( 602جـ1، ص 226).
وقال صلى الله عـليه وسـلم : ( خـذوا عـني مـناسـكـكـم ) ، عـن جـابـر بن عـبـد الله قال : رأيـت النبي صلى الله عـلـيه وسـلم يـرمي عـلى راحـلـتـه يـوم النحـر ويـقـول : ( لـتـأخـذوا مـناسكـكـم ، فإني لا أدري لعـلي لا أحـج بـعـد حجـتي هـذه ). أخـرجه مسلم حـديث رقـم: ( 1297جـ 2، ص 943).
وكـذلك كل الأحـكام الأخـرى التي حـكـم بها في حـياته ونـقـلها عـنه الصحابة رضي الله عـنهـم ، ونـقـلها عـنهـم التـابعـون ، ونقـلـتـها مـن بـعـدهـم عـلماء السـلـف حـتى وصـلـت إلينا ولا تـزال مـسـتمـرة إلى أن يـرث الله الأرض ومـن عـلـيـها فالـوحي المتـلـو هـو الـقـرآن الكـريـم ، ومثـله الــذي أوتـيـه هـو السـنة ، كل هـذا يـدخـل في مجـمـوع عـلـم الـنبي صلى الله عـلـيـه وسـلم ، فـمـن عـلـمه ؟.
قال الله تعالى :{ عـلمه شـديـد القـوى } فـمـن الــذي عـلـمه ؟ ، أشـهـر المـفـسرين أن الـــذي عـلـمه هـو أمـين الـوحـي جـبريـل عـلـيـه السـلام ، وأجـمعـت الأمة عـلى أن جـبريـل عـلـيـه السـلام هـو الـمـلك الــذي اخـتـاره الله تعالى واسـطـة بـنه وبـين رسـله مـن الـبـشـر ، فـكان يـنـزل بالـوحي مـن عـنـد الله تعالى عـلى أنبـائـه ورسـله ، مـن أولهـم آدم عـلـيـه السـلام إلى خـاتمهـم محمـد بن عـبـد الله بن عـبـد المطـلـب صلى الله عـلـيـه وسـلـم ، قال تعالى :{ إن الله يصطـفي مـن الملائكة رسـلا ومـن الناس إن الله سـميع بصـير}سـورة الحـج 75 .
كما اشـتهـر بأن عـزرائيـل مكلـف بقـبـض الأرواح ومـيكائيـل مكـلـف بالسحاب والمطـر واسـرافـيـل مكلـف بالـنـفـخ في الصـور، والأمـر كـله عـائـد إلى الله تعالى ، يـكلـف مـن يخـتاره مـن المـلائكة بما اقـتضـت حـكمـته أن يـكلـفـهـم بها ، كـما اجـمعـت الأمـة عـلى أن جـبريـل عـلـيـه السلام هـو أفـضـل المـلائكة .
يـقـول الشيخ نـور الـدين السالمي رحـمه الله في منظـومته الكـلامية أنـوار العـقـول:
أفـضلهـم جـبريـل والـذي زعـم تفـضيله عـلى الحـبيب قـد غـشـم
يـعـني أن جـبريـل عـلـيه السـلام هـو أفـضـل الخـلـق عـلى الإطـلاق ، وهــو أفـضل مـن كل المـلائكة والإنـس والجـن ، ولـكـن محمـدا صلى الله عـلـيـه وسـلـم أفـضل مـنه ، ومـن زعـم أن جـبريـل عـلـيه السـلام أفـضـل مـن محمـد صلى الله عـلـيـه وسـلم فـقـد جهـل وظـلم ، فـوصف الله تعالى جـبريـل عـلـيه السلام بأنه شـديـد الـقــوى ، أي ذو قـوة شــديـدة بـلغـت الـنهـاية.
قال الله تعالى : { ذو مـرة فاستـوى }سـورة النجـم 6، المـرة يـقـول أكـثـر المـفـسـرين : هـو استحـكام العـقـل ، يعـني هـو صاحب رأي وحـكـمة ، وصـل إلى أقـصى حـد مـن سـداد الـرأي واسـتحـكام العـقـل ، وهـذا ما ينـاسـب المـقـام ، فالله تعالى وصـف جـبريـل عـلـيه السلام بـوصـفـين : { شـديـد القـوى } ، و { ذو مـرة } ، ولـكـن أولى الأوصاف هـو الـتغـايـر، ولـو أنه يصـح أن يـقال : فـلان ذو مـرة أي ذو قـوة بـدنـيـة ، كـما جـاء في الحـديـث مـثـلا : ( لا تحـل الـزكاة لـذي مـرة سـوي ).
قال الشاعـر :
تـواضـع تـكـن كالشمس لاح لـناظـر
عـلى صـفحات الماء وهـو رفـيع
ولا تــك كـالــدخـان يـعـلـو بنـفـســـه
إلى طـبـقات الجـو وهـو وضـيـع
.. للحـديث بـقـية