الحائز على جائزة كتارا الروائي المصري ناصر عراق لـ "أشرعة": للأسرة الفضل الأهم في تكوين ذائقتي وضميري ووجداني الشخص العاجز يثير شهيتي كثيرا للكتابة عنه والبحث عن الظروف الاجتماعية التي جعلت منه إنسانا منهزما مكسورا اعتمدت في كل رواياتي على الفصحى الرشيقة البسيطة، لكنها العميقة الجزلة الظلم الاجتماعي ليس قدرا، وإنما نتيجة سياسات خاطئة وظالمة المثقف العربي مازال بعيدا عن التأثير في الناس
أجرى اللقاء ـ وحيد تاجا:
في حديثه عن البدايات أكد الروائي والصحفي ناصر عراق أن الأسرة هي نقطة البداية الأولى المؤثرة والمهمة للغاية. وأضاف في حديثه مع " أشرعة": للأسرة الفضل الأهم في تكوين ذائقتي وضميري ووجداني. وحول اتكائه المستمر على التاريخ رأى أن الرواية ماهي إلا صياغة جديدة لزمن فات، أو أنها إعادة تركيب الأزمنة وفق منطق إبداعي معين. أما عن موضوع الهوية، الذي كان التيمة الأساسية في روايته " الأزبكية ": أكد اننا بحاجة ماسة إلى تعريف جديد لمفهوم الهوية الوطنية في ظل تداخل الهويات المختلفة بسبب القفزات التكنولوجية المذهلة.

ناصر عراق روائي وكاتب صحفي وفنان تشكيلي، مواليد القاهرة 1961. يعمل حاليًا مديراً لتحرير مجلة «حروف عربية» بدبي. وكان عمل مديرا لتحرير جريدة (اليوم السابع) القاهرية، ورئيس التحرير التنفيذي لموقع "كايرو دار" (بوابة اليوم السابع المعرفية والتعليمية)، ومدير تحرير مجلة الثقافة الجديدة. كما تولى رئاسة القسم الثقافي في مجلة الصدى الأسبوعية. وأسهم في تأسيس مجلة «دبى الثقافية» بالإمارات، وكان أول مدير تحرير لها.
- أصدر 8 روايات: " أزمنة من غبار" و" من فرط الغرام"، و«العاطل» (وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة (البوكر العربية) 2012. و" تاج الهدهد"، و" نساء القاهرة – دبي"، و" الأزبكية" التي فازت بجائزة «كتارا للرواية العربية» 2016، كما فازت بأفضل رواية قابلة للتحويل إلى عمل درامي، و " الكومبارس" واصدر مؤخرا روايته الجديدة " دار العشاق" . كما أصدر ثلاثة كتب، هي: «ملامح وأحوال.. قراءة في الواقع التشكيلي المصري»، و«الأخضر والمعطوب.. في الفن والثقافة والحياة»، و" تاريخ الرسم الصحافي في مصر 2000" الفائز بجائزة احمد بهاء الدين كأفضل كتاب.

* تشير دائما الى دور الأسرة في تكوينك الثقافي والوجداني ..هل يمكن الحديث عن هذا الدور...؟
** الأسرة هي نقطة البداية الأولى المؤثرة والمهمة للغاية، فقد نشأت في أسرة عاشقة للمعرفة والعلم، فوالدي الراحل عبد الفتاح عراق (1924/ 1995) كان شغوفا بالقراءة، رغم أن ظروفه الحياتية القاسية حرمتىه من إكمال تعليمه الرسمي، إذ أُجبِرَ على ترك المدرسة وهو في السابعة من عمره نظرًا لوفاة أبيه (جدي إبراهيم)، ومع ذلك كان يقرأ طه حسين والعقاد وسلامة موسى والنصوص المترجمة لشكسبير وتولستوي ودوستويفسكي ودارون ولينين وغيرهم، كما كان مولعًا بالشعر العربي فينفعل به انفعالا فيحفظ أشعار المتنبي وأبا نواس وأحمد شوقي وغيرهم، كما كان رسامًا بارعًا يتقن رسم وجوه المشاهير والطيور والحيوانات، وبالمناسبة هو الذي تولى تعليم والدتي القراءة والكتابة، وكان يصطحبها معه لحضور صالون المفكر الكبير سلامة موسى الذي كان يعقده كل أسبوع في بيته بمنطقة الفجالة بقلب القاهرة خلال أربعينيات القرن الماضي.
هذا الوالد الجليل أورث أبناءه السبعة (ترتيبي السادس) عشق الأدب والفن والفكر والانشغال بالشأن العام سياسيًا واقتصاديًا، وهكذا وجدتني ابنا لأكثر من أب وأم، فأشقائي الكبار شاركوا والدي في غرس حب الآداب والفنون في وجداني، ولك أن تعلم أن أخي الأكبر الراحل إبراهيم (1945/ 2011) الذي تخرج في كلية التجارة كان حريصًا على اصطحابي وأنا طفل لم أبلغ الخامسة لزيارة المتحف المصري والأهرام ليشرح لي من هم المصريون القدماء وماذا أنجزوا؟ أما شقيقي الثاني المهندس فكري، رعى الله أيامه ولياليه، فقد كان ومازال عاشقا أصيلا للأدب واللغة العربية، ورغم أنه بلغ منصب وكيل أول وزارة الكهرباء، غير أنه مفتون بالشعر وأسراره قديمه وحديثه، وأنه ضليع في اللغة العربية يعرف أسرارها وقواعدها ونحوها وصرفها بشكل مدهش جدًا. كذلك شقيقتي الراحلة الدكتورة ماجدة التي حصلت على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية من لندن في ثمانينيات القرن الماضي كانت تشرح لي وأنا في العاشرة من عمري قصائد عمر الخيام وأبي فراس الحمداني التي تشدو بها أم كلثوم، أما شقيقي الأكبر الراحل فوزي فكان أستاذي الأول في مجال فنون التمثيل، حيث زرع لي جناحين لأطير بهما في فضاء السينما الساحر، وما أكثر ما اصطحبني إلى دور العرض لأشاهد أفلام عبد الحليم حافظ وسعاد حسني وفريد شوقي، فضلا عن السينما الأجنبية ونجوم هوليوود في الخمسينيات والستينيات. باختصار... للأسرة الفضل الأهم في تكوين ذائقتي وضميري ووجداني.
*وكيف بدأت علاقتك بالكتابة والكتاب ...؟
تعود علاقتي بالقراءة إلى طفولتي، حيث كنت مغرما بقراءة الصحف والمجلات خاصة الهلال والعربي وصباح الخير وروز اليوسف، وما أكثرها في بيتنا البسيط الكائن في منطقة شبرا الخيمة شمال القاهرة. لكن الحدث الفارق في علاقتي بالقراءة جاء في عام 1976 عندما اطلعت على الجزء الأول من سيرة عميد الأدب العربي طه حسين، وأعني (الأيام) والتي كانت مقررة علينا نحن طلاب الصف الثالث الإعدادي. لقد بهرتني الأيام أيما إبهار، وبعد ذلك بشهور قليلة حظيت بنعمة قراءة ثلاثية نجيب محفوظ موفورة الشهرة (بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية)، آنذاك قررتأن أكون مثل هذين الرجلين العظيمين، ولكن كيف؟ ثم توالت قراءاتي بكثافة عند التحاقي بكلية الفنون الجميلة بالزمالك عام 1979، فعرفت الطريق إلى كتب الفلسفة والتاريخ والسياسة، بجانب دواوين الشعراء العرب والأجانب، وانشغلت بشعر شوقي وإيليا أبوماضي ونزار والسياب ونازك الملائكة ومحمود درويش، كما فتنتني روايات ماركيز وجورج أمادو ودوستويفسكي وتولستوي وقصص جوجول وتشيكوف ومسرح إبسن وآرثر ميللر وبريخت وبيتر بروك، ونهلت ما تيسر من سير العظماء أمثال لينين ونيوتن وماركس وتروتسكي وشكسبير وغيرهم.
* منذ روايتك الأولى (أزمنة من غبار) ووصولا إلى أحدث رواياتك (دار العشاق) يلاحظ التركيز على كشف التاريخ الاجتماعي والسياسي الثقافي لمصر والربط بينهم.هل نتحدث هنا عن مشروع روائي متكامل الملامح للروائي ناصر عراق؟
** أظنها ملاحظة جيدة، وأزعم أن الروائي الناجح هو الذي يمتلك مشروعًا روائيًا بشكل ما، وفي تخيلي أن المرء لا يمكن أن يكتب رواية جيدة وجميلة وممتعة دون أن يستند غلى معرفة عريضة وعميقة بالحياة، وما تحتشد به من معارف في مجالات الفكر والاقتصاد والسياسة والتاريخ والآداب والفنون وغيرها، حتى يستطيع أن يشيّد معمارًا روائيًا متكاملا، جذابًا ومحرضا على الانفعال به والتفاعل معه. لأن الرواية الناجحة تعد قطعة من الحياة، ولكن وفق صياغات خاصة بكل كاتب.

* في مجمل أعمالك هناك اتكاء على التاريخ. لماذا...؟

** يمكننا أن نعرّف الرواية بأنها صياغة جديدة لزمن فات، أو أنها إعادة تركيب الأزمنة وفق منطق إبداعي معين، وفي اعتقادي أن مصر مرت بتحولات سياسية واجتماعية ضخمة ومثيرة منذ هبط نابلييون وجنوده أرضها عام 1798، وحتى الآن. هذه التحولات تغري الروائي الحصيف برصدها من جهة، وإبداء رأيه فيما حدث ويحدث من جهة أخرى، لا بهدف إعادة قراءة الماضي روائيا فحسب، وإنما من أجل فهم الحاضر واستشراف المستقبل.

* هل يحق للروائي أن يقوم بتغيير طبيعة حدث أو حقيقة تاريخية لتتناسب مع العمق الدرامي للسرد في رواياته؟
** لا يحق للروائي تغيير طبيعة حدث اتفق المؤرخون على وقوعه، فمثلا نابليون بونابرت قاد حملته العسكرية واحتل مصر عام 1798، فلا يمكن للروائي أن يقول إنه جاء في عام آخر، كذلك معروف أن الحملة ظلت في مصر حتى سنة 1801، ومن ثم لا يحق للروائي تغيير ذلك التاريخ، ولكن الروائي النبيه يستطيع أن يستثمر خياله ويبتكر أحداثا ووقائع حدثت لنابليون في القاهرة تتفق مع منطق الرواية التي يكتبها من جهة، ومع شخصية نابليون من جهة أخرى، وهو ما حاولته في روايتي (الأزبكية). أما في رواية (دار العشاق) فقد تخيلت أن محمد علي بعد أن أمر بقتل نحو 450 من المماليك فيما سمي مذبحة القلعة عام 1811، أقول تخيلت أن محمد علي أصيب بأرق دائم بعد هذه المذبحة، وأن أشباح المماليك المقتولين يطاردونه في نومه، وأنه اضطر إلى الاستعانة بالأطباء والسحرة ليقضي على هذه الأشباح! هنا خيال يتكئ على التاريخ دون أن يفسد الوقائع الأصلية أو يغير فيها.

* الثيمة الأساسية لرواية (الأزبكية) هي مسألة الهوية الوطنية. وسؤالي ما مفهومنا اليوم للهوية والوطن؟ وبالتالي هل نحتاج إلى الغرب كي نعي مفهوم الوطن والمواطنة، كما حدث مع أيوب وشارل؟
** لا ريب عندي أننا في حاجة ماسة إلى تعريف جديد لمفهوم الهوية الوطنية في ظل تداخل الهويات المختلفة بسبب القفزات التكنولوجية المذهلة، وثورة الاتصالات والمواصلات، فأنت الآن تستطيع أن تتحدث مع أي شخص في العالم في التو واللحظة، وتستطيع أن تذهب إلى أي بلد في العالم في بضع ساعات، كما أن عادات الشعوب وثقافاتها وقناعاتها صارت متاحة ومتداخلة، وأصبح الإنسان بشكل ما متقبلا للمختلف عنه فكريا ودينيا وعقائديا، بعد أن اتضحت أمور كثيرة وقام المبدعون والمفكرون بتعزيز قييمة الإنسان في حد ذاته بغض النظر عن أي شيء آخر. لكن في زمن رواية (الأزبكية) لم يكن مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود الجغرافية المحددة قد وصل إلى مصر بعد، إذ كانت قابعة تحت الاحتلال العثماني ثم جاء المحتل الفرنسي، لكن أيوب السبع المواطن المصري المسلم لم يكن منتبها إلى العثمانيين يمثلون الاحتلال، حيث ظن مثل كل المصريين أن (إسلامهم) يكفي، لأن مفهوم الوطن بالمعنى الحديث لم يكن موجودا، مثلما كان مستقرا في أوروبا، وفرنسا تحديدًا، لذا كان من الطبيعي أن يتولى الخواجة شارل، وهو رسام فرنسي مستنير مقيم في القاهرة، شرح مفهوم الوطن لصديقه أيوب السبع، وبالمناسبة، لقد أثرت قضية الوطن في (الأزبكية) التي تدور أحداثها في مطلع القرن التاسع عشر، بينما تمت إثارتها في مصر في مطلع القرن العشرين، عندما قال أحمد لطفي السيد إن مصر للمصريين. يعني لعب الخيال دوره بقوة في (الأزبكية) كما أظن، كذلك تم تشويه مفهوم الوطن والاستخفاف به عندما وصلت جماعة الإخوان إلى السلطة في مصر عام 2012، والكل يعرف أن مرشدهم السابق قال إنه لا مشكلة لديه أن يحكم مصر رجل أفغاني أو باكستاني مادام مسلما!
* وكيف تفهم العلاقة والحوار مع الآخر (الغرب)؟ وهل ترى أنك قمت بتقديمها بالشكل الأمثل من خلال (الأزبكية) و ( دار العشاق)...؟
** هذا السؤال يشغل بال المصريين حتى الآن منذ الصدمة التي تلقوها عندما جاء نابليون بحملته العسكرية، إذ اكتشفنا كم نحن متخلفون، وكم أن الغرب متقدم كثيرا عنا علميا وسياسيا وتكنولوجيا وعسكريا وثقافيا، لكن هذا الغرب (مسيحي) ونحن (مسلمون)، فكيف نتعامل معه؟ عقب ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي أعلن عدد من مفكري مصر بوضوح أننا يجب أن نتعلم من الغرب، فلا يعقل أن نعيد اختراع العجلة من جديد، وكتب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) عام 1938 موضحًا أن علينا الاستفادة مما وصل إليه الغرب والتعلم منه لننخرط في العصر الحديث، وقد تقبل الناس هذه الأفكار وتعاملوا مع الغرب برحابة صدر، مادام وصل إلينا غير محتل أو طامع في خيرات البلد، لكن مع منتصف السبعينيات بدأت الأمور تنقلب تدريجيا، بفعل تزايد الجماعات المتشددة دينيا التي أعلنت أن الغرب كافر يجب محاربته! ثم بدأ مسلسل التراجع المخيف على المستويات كافة، ومن عجب أن احدًا لا يسأل نفسه: إلى متى سنظل عالة على الحضارة الحديثة التي صنعها الغرب؟ فكل ما نستخدمه في حياتنا اليومية الآن من اجهزة وأدوات ابتكرها هذا الغرب، ونحن بصراحة لم نبتكر شيئا ذا قيمة منذ سقوط الأندلس عام 1492.
* مزجت دائما في رواياتك بين الثلاثي المحرم (الجنس والدين والسياسة). هل هي ضرورة أم موضة؟ مع الإشارة إلى توظيف الجنس بشكل لافت في اعمالك؟

** في حوار مع مجلة العربي الكويتية عام 1959 على ما أذكر قال نجيب محفوظ: (لا حياء في الأدب)، وهو قول صادق إذا كنا نعمل على إنتاج أدب جيد ومتميز، ولا شك أن الأدب الجيد هو الذي يغوص في النفس البشرية ليكشف تناقضاتها وصراعاتها وأحلامها وإحباطاتها، ولا شك أيضا في أن الثلاثي الشهير (الجنس والسياسة والدين) من الأمور التي تؤرق الناس وتستحوذ على اهتمامهم سواء في السر أو العلانية، لأنها أمور مرتبطة أشد الارتباط بغرائزهم وعقولهم ومصالحهم وعقائدهم، فكيف لا ينشغل بها الروائي؟ ولكن السؤال المهم: كيف يتم توظيف هذه الأمور روائيًا؟ إن الكاتب الموهوب هو الذي يتمكن من صياغة عمل روائي محكم ومتين يتناول فيه هذه القضايا (المحظورة) بذكاء وحصافة، بحيث لا يشعر القارئ أن ثمة إقحاما غير مبرر لطرح مشكلات الجنس أو الدين او السياسة.

* ماسبب لجوء معظم الروائيين إلى تجسيد الفشل والانكسار الاجتماعي والسياسي للإنسان بالعجز الجنسي تحديدا، كما في روايتك (العاطل)؟
** بطل رواية (العاطل) لم يكن مصابًا بالعجز الجنسي فقط، وإنما كان شابا مسكينا ينفر من القراءة ويخاصم المعرفة، ويكابد أوضاعا اجتماعية قاسية، وما العجز الجنسي هنا إلا تعبير عن قسوة الإحباط العام، فضلا عن أن العجز الجنسي يشير فورًا إلى أن صاحبه غير قادر على التناسل، وهو أمر بمثابة حكما بالإعدام على المرء وهي حي. لأن جوهر الحياة أن تتناسل جميع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، فإذا تعطل الإنسان عن إنجاز هذه المهمة الغريزية لسبب اجتماعي أو نفسي علينا أن نرصده ونحذر من توابعه.

* توقعت عندما قرأت رواية (نساء القاهرة. دبي)، أن أجد سردا أو تحليلا لشخصية المرأة الإماراتية، بجانب المرأة المصرية، كما يوحي العنوان، إلا أنني لم أجد فيها إلا رصدا نفسيا للمرأة المصرية، لماذا؟ ولماذا اخترت عائلة مسيحية بالتحديد للحديث عنها؟
** انطلقت في (نساء القاهرة. دبي) من فكرة جوهرية يمكن إيجازها فيما يلي: ماذا حدث للمصريين، وبخاصة المسيحيين طوال نصف قرن، علما بأنني شاهدت التحولات المريعة التي أصابت مصر منذ السبعينيات، ولأنني من سكان منطقة شبرا التي يقطن بها نسبة لا بأس بها من المسيحيين، فقد حاولت رصد التأثيرات الاجتماعية عليهم، وهي تأثيرات سلبية بكل أسف، حيث عصفت السلطة السياسية بالقدر المعقول من العدالة الاجتماعية التي تحققت في زمن عبد الناصر، وسمح نظام السادات، ثم مبارك من بعده للجماعات الدينية المتشدة بالتواجد والحضور بكثافة، فانتشر الإرهاب ورأينا كيف تعامل الإرهابيون مع أشقائنا المسيحيين حيث قتلوا منهم الكثير وأحرقوا كنائسهم بغلظة، وقد اخترت الإبحار في وجدان أسرة مسيحية نظرا لأن الأدب المصري بشكل عام لم يتعرض بما يكفي للمسيحيين المصريين، رغم أنهم يشكلون نسبة تتجاوز 10% من تعداد السكان، كما أن ثمة غموضا حول طبيعة الحياة اليومية للمسيحيين، إذ إن معظم المسلمين المصريين لا يعرفون شيئا تقريبا عن البيت المسيحي من الداخل، أو عن الطقوس الدينية المسيحية، وقد قرأت كثيرا عن الديانة المسيحية وسعدت بزيارة كنائس وأديرة مصرية كثيرة، كما سألت أصدقاء مسيحيين عن أمور دقيقة تخص عقيدتهم حتى تبلور أمامي صورة شبه مكتملة عن الأجواء المسيحية المصرية بتاريخها وحاضرها ومزاجها العام، ومن ثم شرعت في كتابة الرواية.
يبقى موضوع المرأة الإماراتية، وكيف لم أتناوله بشكل كبير في (نساء القاهرة. دبي)، والتفسير عندي يتمثل في أن المرأة المصرية كانت الدافع الأول في كتابة الرواية، سواء كانت هذه المرأة تعيش في القاهرة، أو غادرت لتقيم في دبي، وكيف تحولت أفكارها وطباعها وسلوكياتها عند الاحتكاك بثقافة جديدة ونساء أخريات.

* توسم رواياتك بالواقعية بشكل عام، والسؤال هل يمكن للكاتب أن يكتفي بأن يكون شاهد عيان، يقوم بمهمة التصدي لمحاولات الإخفاء والتدليس، أم لابد دائما من جرعة من الخيال في أعماله؟
** لا توجد رواية واقعية بشكل كامل على الإطلاق، لأن كلمة رواية في حد ذاتها تعني (إعمال الخيال)، والروائي يستلهم الواقع، لا ينقله بحذافيره، وإنما يقتبس منه موقفا أو صورة أو واقعة أو شخصية، ثم يعيد (طبخ) هذه الاقتباسات مع (مسحوق خياله) لينتج لنا (وجبة) إبداعية ممتعة، ومن ثم يمكن القول بيقين إن كل رواية جيدة هي رواية تتكئ على الخيال في المقام الأول، حتى لو كان المؤلف قد غاص في تفاصيل الواقع بكل قوة.

* لماذا نجد أن كل أبطال اعمالك تقريبا من المكسورين والعاجزين اجتماعيا؟
** ليس كل أبطال رواياتي ممن أشرت إليهم، فهناك الصحفي الناجح المتحقق (منصور عبد العليم) في (العاطل)، وهناك (الأستاذ جرجس) المثقف المستنير في (نساء القاهرة. دبي)، وبصحبته الدكتور (عزت أبو النيل) الثوري المناضل عاشق الشعر، وهناك أيضا (أيوب السبع) الوطني الرافض للاحتلال الأجنبي لمصر في (الأزبكية)، وهناك (الخواجة شارل) الرسام الفرنسي عاشق القاهرة الذي سعى لتعليم أبنائها اللغة الفرنسية في (دار العشاق) وغيرهم، ومع ذلك يصح القول إن الشخص العاجر يثير شهيتي كثيرا للكتابة عنه والبحث عن الظروف الاجتماعية التي جعلت منه إنسانا منهزما مكسورا، لأنني من الذين يعتقدون أن ظروف البيئة تلعب دورا بالغ الأهمية في تكوين الجهاز النفسي للإنسان، وأن الظلم الاجتماعي ليس قدرا، وإنما نتيجة سياسات خاطئة وظالمة.

* بعكس أسلوب معظم الروائيين، فإن أسلوب السرد في أعمالك يؤكدأنك تعرف مسبقا كل أحداث الرواية، وأن الحكاية بكامل شخصياتها وتفاصيلها حاضرة في ذهنك؟
** بالفعل لا أبدأ في كتابة رواية إلا بعد أن أضع تصورا عاما لها نتيجة عملية النضج المستمرة لأحداث الرواية داخل مخيلتي، ومع استمرار الكتابة بشكل يومي يتم تعديل هذا التصور بالحذف والإضافة والتجويد أما أسلوب التقديم والتأخير والإشارة إلى أحداث سوف تأتي مستقبلا فيعد من الأساليب الشيقة في الكتابة إذا تم استثماره بشكل لا يفسد تسلسل الأحداث ولا يقلل من حماسة القارئ لمواصلة الاطلاع، وأظن أنني حاولت ذلك بشكل واضح في (نساء القاهرة. دبي) بشكل أثار إعجاب الكثير من النقاد فاحتفى بالرواية كل من الدكتور جابر عصفور الذي كتب عنها مقالين مهمين في الأهرام مشيدا بها، والأستاذ بهاء جاهين الذي تناولها باهتمام في مقال طويل بالأهرام أيضا، والأستاذ مصطفى بيومي وأحمد الشريف وغيرهم.

* ملفت تعاملك مع الزمن ومحاولة تحطيم التراتب التقليدي واعتمادك على التقطيع، والانتقال من الحاضر إلى الماضي، والعودة ثانية إلى الزمن الحاضر...؟
** أذكر جيدا أن ماركيز كان يردد دوما أن الزمن هو أكبر مشكلة تواجهه عند الكتابة، كيف سيتصرف فيه. كيف سيروض مروره القاسي؟ وهل من طريقة أخرى للتعامل معه غير التسلل الزمني المعروف؟ بالنسبة إليّ، فقد حاولت الاستفادة من عشقي للسينما واهتمامي بها، حيث صار أسلوب (الفلاش باك) في السينما أحد الأساليب المدهشة إذا تمكن الروائي من استعارته بحذق، لأن الإنسان في الواقع لا يسير في خط مستقيم إلى الأمام، وإنما يتذكر الماضي أحيانا، ويشرد أحيانا أخرى في مستقبله، وتذكّره أحداث جديدة بمواقف قديمة وهكذا، أي أن الزمن هنا يجب أن يكون أكثر مرونة وقابلا للتعامل معه برحابة صدر، لعلنا نستطيع أن نقهر سريانه الحاد في حياتنا ليسرق أعمارنا.

* بقدر ما يبدو الاعتناء باللغة واضحا في رواياتك، بقدرما تبدو اللغة عندك بسيطة، وربما منحازة أكثر إلى المستعمل اليومي، حتى نكاد نرى الشخصيات عندك تتكلّم بلغاتها اليومية وانفعالاتها الذاتية وثقافاتها الخاصة دون إقحام أو تصنّع؟
** اللغة هي الوعاء الذي يحمل أفكاري وآرائي إلى القارئ، وهي أيضا الوسيلة التي يجب أن يستمتع القارئ وهو يتعامل معها، وفي ظني أن اللغة العربية الفصحى قادرة على التعبير عن أدق خلجات النفس إذا استطاع الكاتب أن يلم بها ويتقن قواعدها ويعرف أسرارها ليفجّر طاقاتها المخبوءة، وقد اعتمدت في كل رواياتي على الفصحى الرشيقة البسيطة، لكنها العميقة الجزلة، أو هكذا أتخيل، حتى أنني أجريت الحوار بين شخصيات رواياتي بالفصحى البسيطة أيضا، ولم أستخدم اللهجة العامية المصرية على الإطلاق، إيمانا مني بأن الفصحى قادرة على التعبير بشكل أرقى، وأنها سهلة القراءة في أي منطقة من عاملنا العربي الواسع.
* بعيدا عن الرواية والأدب فأنت إعلامي ومفكر بارز، والسؤال كيف انعكس الإعلامي على الإبداعي؟ وكيف تم تسخير الفكر السياسي في الأدب دون أن يخل بالمستوى الفني؟
** لا ريب في أن عملي بالصحافة طوال أكثر من ثلاثة عقود قد ساعدني على تطوير مهاراتي الروائية، ولا أظن أن ثمة رواية مهمة دون أن تكون لها علاقة ما بالأجواء السياسية، خاصة في عالمنا العربي المسكون بمشكلات سياسية معقدة، ولكن يجب توظيف (السياسة) بشكل فني جميل ومثير، وإلا اعترى القارئ النفور من الرواية واعتبرها منشورا سياسيا أو برنامجا حزبيا. وكما قلت سابقا فقد شهدت مصر تحولات سياسية خطيرة جدا في النصف قرن الأخير كان من المحتم أن أتناول تأثيراتها على المجتمع وفق صياغات روائية سعيت لأن تكون متميزة وممتعة. والحكم في النهاية على مستوى نجاح هذا السعي يعود إلى القارئ الكريم والناقد الحصيف.

* أشرت في حوار إلى أن الوعي السياسي الجديد كان المكسب الأهم الذي ربحته الشعوب بعد ثورات الربيع العربي. والسؤال ماذا على صعيد المثقفين، والذين يلعبون دورا إيجابيا دائما في أعمالك...؟

** علينا الاعتراف بأن المثقف العربي المنحاز للغالبية العظمى من الشعب مازال بعيدا عن التأثير في الناس، بسبب ظروف كثيرة أهمها: إصرار بعض الأنظمة على تهميش المثقف ومحاربته وربما سجنه، ثانيا: مازالت الغالبية العظمى من الشعرب العربية تعاني الأمرين تحت وابل من الخرافات الفكرية التي تمسك بخناقها منذ قرون فلا تعرف الكثير عن ضرورة إعمال العقل، وهو أمر يُسأل عنه الأنظمة الحاكمة وليس الشعوب، لأن الأمم تنهض وتتطور إذا شاءت القيادة السياسية ذلك وعملت على تحقيق بالوعي والإرادة، بينما تنحدر الشعوب وتتخلف إذا عجزت القيادة السياسية، أو رفضت، عن الأخذ بأسباب التطور، وهي معروفة للجميع.
باختصار... الثورات العربية التي حدثت في الأعوام القليلة الفائتة كشفت النقاب عن حجم التراجع الفكري المخيف الذي يحيق بنا من جهة، وأتاحت للمثقف فرصة لمراجعة تصوراته وتطويرها ليتمكن من ممارسة دوره في ظل أوضاع جديدة بعد هذه الثورات... وهي أوضاع لا تسر بكل أسف، لذا نأمل أن نتجاوزها سريعا ليصبح عالمنا العربي واحة للعدل والحرية والجمال.