مدخل
ملفت في واقع المجتمع العماني القديم وجود مستوى من الأسطرة على مستوى العلاقة الجمعية بنصوص شعراء الفنون الشعبية، سواء كانوا رجالا أو نساء، ولكن الغريب هو أنه لا توجد سيرة ذاتية مكتملة وفق النسق الحكائي السردي المؤسطر عنهم، وبالتالي يتجاذب أفراد المجتمع سرد موقف لشاعر ما، ولكن ليس سيرته الحياتية، سواء كانت الشعرية أو الإنسانية، في مجتمع موغلة سردياته في تفاصيله الصغيرة المعتادة، فكيف لم تنتبه الثقافة الجمعية إلى شعرائها الشعبيين ولم تدوّن في ذاكراتها خط سير حياتهم البشرية العادية فضلا عن الشعرية؟
الأسئلة ربما ليست مهمة، بخاصة إذا علمنا أن السرد الحكائي تفاعل مع متفرقات ولم يضمن انتظام خط سير متفق عليه حول شاعر محدد، وهنا لا نود إلقاء اللوم على جامعي الحكايات في مرحلة لاحقة من عمر المكان، ولكن نبحث عن الإجابة المفترضة - كما نظن - من خلال الصلة الغريبة حقا في هذا السياق.
ثمة فراغ ما في جسد الفنون الشعبية العمانية، سبّبه غياب تفاصيل سيرية لشعراء شغلوا الناس وسكنوا في مجالس الخاصة والعامة عىى السواء، وذهبت نصوصهم في صميم الذاكرة والذائقة المكانيين، هذا الفراغ يطرح أسئلته اللماذَويّة في صمت خجول.
بين نشأتين
ندرك جيدا أن الشعراء في مختلف بيئاتهم يمرّون بنشآت مختلفة ومتعاقبة، معقدة وصعبة، قاسية في صور حضورها، سواء كانت مادية أو معنوية، وجدانية أو عاطفية، فهم - وإن تشابهوا مع الكثيرين في ذلك - يحملون في دواخلهم مستويات عالية من الوعي العميق، تجعلهم يتعاطون مع التفاصيل والأحداث بأنساق مختلفة عن الآخرين، تبعا لانعكاسها على مرايا حيواتهم التي يعيشونها.
نشأتان أساسيتان، بينهما تظهر ملامح تكوين مختلفة، هذا ما حصل عند شعراء الفنون الشعبية العمانية، الأولى بدأت في الطفولة، والثانية بدأت منذ اللحظة التي شعر فيها أن القصيدة التي ستعمر ساحة الطرب هي مفتاحه نحو الاختلاف عن الأقران، هذا الاختلاف الذي يلغي الأشباه، ويضعه على أول طريق قدره الجديد، الذي سيمشيه سنين طوال.
على الرغم من أن النشأتين تطرحان أسئلتهما الملحة، لكنها لم تلق هوى أو هوسا لتتبعها جمعها ذهنيا، تمهيدا لسردها وتسويقها جمعيا، وبالتالي ضاعت مرحلة النشأة، لتبقى مرحلة ما بعد الطرب، التي ستبقى هي الأخرى مجرد مواقف تنبت على جسر الذاكرة ليرويها اللسان بحسب مسار الأحداث التي تهم السارد، وليست بالضرورة معبّرة عن حياة الشاعر، مما يتركنا أمام العديد من الاستفسارات حول : متى وأين تمت ولادته ، كيف عاش طفولته، هل كان بين أبوين أو هو يتيم أحدهما، هل أكثر من الأسفار، هل تزوج أو ظل وحيدا، وغيرها من أسئلة البحث السردي، من أجل صياغة حكاية استثنائية عن شخص استثنائي، لكن ذلك لم يحدث.
بين جنونين بين العقل والجنون شعرة، أو كما قال الشاعر فهد عافت (باقيٍ بين عقلي والجنون شْعَرَة)، لكن في حال الشعراء العمانيين العاميين لم يقطع تلك الشعرة أحد، كي يستبين مواضع العقل والجنون راصد، أو كي يفتح منابتها ومصابّها ومصائرها مهتم، هذا على مستوى الثقافة الجمعية العمانية التقليدية، التي لم تترك سيرة شعبية مهمة لأحدهم كي نهمس لأنفسنا بصدى الأحداث المحيلة لذلك، باستثناء المرويات المتناثرة زيادة ونقاصانا حول هذا أو تلك.
الشعراء والشاعرات في الزمن القديم عمانيا، عاشوا فترات جعلتهم يبثّون الجنون عبر نصوصهم، ربما كان لذلك تاريخ لدى ذواتهم، يعود إلى طفولاتهم المبكرات، أو إلى فترات الصبا، ثم في فترات الشهرة والذيوع، ثم في فترات الكهولة، ذلك الجنون الذي تناثر بين سلوك اجتماعي وقصص عشق وحكايات تحدٍّ ومدارج كمال وانتشاء شغوف، لا بد من أنها كانت لها أسبابها وجذورها الصميمة، التي فعّلت الجنون المبدع الذي انعكس على النصوص، في بهائها واستثنائها وانسلاخها من المألوف وانعتاقها من العابر نحو المستكن، مما لفت أنظار الأمكنة والأزمنة على حد سواء، وبنسب مختلفة.
إذا كانت النصوص تركت مساحتها المحيلة إلى الجنون الجميل فيها، فذلك لأن المجتمع انتبه إلى مختلف فيها غير متكرر في ما سبق من نصوص، وهنا تحضر اللهجة، بخصوصيتها وجرسها، وتحضر المخيلة بعوالمها وسحريتها، وتحضر الفكرة بجِدّتها وفرادتها، وتحضر الفلسفة المختلفة النوازع والأهداف بتفاعلها مع الأحجةث والمواقف الذاتية والغيرية، تاركة متلقيها وسامعيها بين حيرة الاحتفاء بالمغنى من ناحية، والبحث عن جماليات المعنى ودلالاته من ناحية ثانية، وهو ما كان كافيا لجعل الثقافة الجمعية تتجه لرسم سيرة مختلفة لشعراء مختلفين.
فراغ ضخم
في زمننا المعاصر، هناك شعراء تم جمع نصوصهم بجهود مختلفة، كما حصل - على سبيل المثال - مع : عامر بن سليمان الشعيبي (المطوّع)، سويري، وغيرهما، مما استدعى في مقدمات تلك الكتب وضع (ملامح) من مواقف أولئك الشعراء، باعتبارها إضاءة مهمة، تفيد في تقريب ما تعنيه مضامين النصوص، فضلا عن جهود مواقع إلكترونية، مثل السبلة والحارة العمانيتين، والسلطنة الأدبية، باعتبار الثلاثة هي منتديات للتدوين والجمع، لكنها في مجملها لا تقدم سِيَراً، إذا اعتبرنا أن مصدرها هم حفظة أو ساردون من المجتمع العماني، وهذا يعكس أنه لم تكن هناك سيرة بمعناها التسلسلي المحمل بتفاصيل حدثية راصدة وحاوية، ولهذا فإن بعض التأصيلات تظل مُراوِحة بين راو مؤكد وراو مرجّح وثالث سمع من فلان.
هذا يعكس الفجوة الضخمة في جسد الفنون الشعبية العمانية، وهي سمة لا نقول بأن تلك الجذوة التي أسطرت النصوص أحجمت عن أسطرة أصحاب تلك النصوص، ولكن ربما هناك سبب غامض جعل من التفاصيل التي وددنا العثور عليها أن تكون جزءا من الصميم الوجداني المجتمعي، حتى يسهل للجامعين- في زمننا - جمعها وترتيبها وسَلسَلٌتها، بما يجعل منها حكاية قابلة للسرد، أو للتوظيف الروائي، باستعادة الزمن الذي تنتمي إليه الأحداث.
هل يتطلب هذا البحث عن أحداث متفرقة وروايات متضاربة، وربما فراغات لا يمكن سدّها، تمهيدا لكتابة سِيَر شعرية أو إنسانية عن رواد ومجددين انتموا إلى البيئة العمانية القديمة شعريا؟ نظن أن ذلك ممكن، من خلال إيجاد سِيَر محضة، سِيَر مستخلصة، وسِيَر مستوحاة، وليس بالضرورة استشهادات شعرية، بل سرد خالص، ربما سيكون على شاكلة الزاوية التي نظر بها المجتمع العماني إلى شعرائه الاستثنائيين، الذي فتحوا آفاق الكثيرين على مناخات شعرية وطربية مختلفة في أزمنة سابقة.
خاتمة
على الرغم من ذلك، كان للعمانيين في بيئتهم التقليدية وأزمنتهم البسيطة، كان لهم ولاؤهم الخاص لنصوص شعرائهم، وهم الذين لم تقفز إلى أذهانهم فكرة توثيق حيوات شعرائهم، بل انتبهوا إلى ما تحمله نصوصهم من مساحات مختلفة وخاصة، وتماهوا مع جعل تلك النصوص مختلفة عن سابقاتها، بما يعنيه اختلاف الشعراء أنفسهم عن سابقيهم، وهو الجزء المهم الذي سيجعل مهمة جمع ما تناثر عن الشعراء، بمثابة تناغم وتكامل وانسجام بين ذاكرتين يحملان الهاجس ذاته تجاه فكرة المختلف، مما سيعيد الاعتبار زمنيا إليهم، عبر سِيَرِهم الإنسانية الحياتية، استنادا إلى استقراء لمراحلهم الزمنية، بدءا من أماكن الميلاد، ووصولا إلى أماكن الموت والغياب الجسدي.