د. دلال صماري :
أفتح النافذة فتتدفق في أرجاء مرسمي أغنيات ملونة لم تنهكها الرحلة الطويلة التي قطعتها من عمق المجرة. كل واحدة من تلك الأغنيات تحمل لي في كل صباح فكرة تشكيلية جديدة تدفعني للاحتفاء بالكون والحياة. في هذه التجربة التشكيلية الجديدة - والتي أراها تنبجس من نفس منابع تجربتي السابقة «قميص الأحلام» - أراني مأسورا بما تختزنه خامة الخيش من إمكانات هائلة يمكنها أن تسعفني لأن أوظفها في سياقات تشكيلية مختلفة. فمن خيوط الخيش سأنسج أغنياتي للشمس، ومن تلك الخيوط سأرسم كيف تحتفي الكائنات والعناصر بدفء الشمس وألوانها.
يواصل الفنان في معرضه الجديد الاحتفاء كعادته بخامة الخيش، كخامة أساسية في بناء أعماله والتي تعطيه في كل مرة وبحكم التجريب نتائج متنوعة، فاتحة الآفاق نحو تعبيرات ودلالات لا محدودة. حيث يوظّف جلّ إمكانياتها من حيث الملامس والحياكات، كما الإمكانات البصرية التي تقدمها سواء على مستوى اللون أو الشكل بحيث تظفي على أسطح الأعمال نوع من الحركية والدينامكية، سواء من خلال المراوحة بين ألوان الصباغة وألوان الخيش الطبيعية، أو من خلال التموجات وتعدد المستويات التي يخلقها اللصق الطيّ والرتق والكولاج الذي يحدثه الفنان أثناء تركيبه لمختلف عناصر العمل، حيث تكون عادة مجموعة تركيبات متكونة من مجموعة من قطع الخيش مع إضافة أقمشة أخرى هذه المرة شفافة تكشف عما وراءها وتتواصل معه حينا أو أقمشة عادية حينا آخر، فتتنوع هذه التركيبات إما عموديا أو افقيا وأيضا متوازية وأحيانا متقاطعة ... ملصقة على محمل من التوال كخلفية مشتغل عليها بعناية ودقة بالغتين، بحيث يتواصل مع تركيبة الخيش والأقمشة ككل لا يتجزأ، حيث تكون هذه الخلفيات إما مربعة أو مستطيلة او دائرية، يحتل التكوين القماشي المتنوع مساحتها الداخلية حينها ويخرج عنها ليمتد في الفضاء حينا آخر كاسرا حدود المحمل والإطار...هذا على مستوى التكوين والتركيبات أما على مستوى الأشكال والألوان فنوّع الفنان هذه المرة أكثر في المواضيع المعالجة التي جاءت واضحة من خلال عناوين الأعمال على غير العادة، فعالج الفنان بتجريد بليغ عن طريق الخط والنقطة /الملمس والعلامة /الحرف واللون أعماق الذاكرة ليكتب رسائل ملونة الى الأم غائصا بعمق في جوف الحزن متأملا الكواكب والنجوم، كما مرّ أثناء هجرته بنساء الحارة مخاطبا من خلالهن بقيثارة الريح هواجس الكون، ليعود عاشقا من زمن الخرافات المدفونة بصمت مستعينا بالجسد كبوصلة للعبور نحو الكفن الأخير...
انطباعات الفنان المعتقة العميقة في الوجدان نحو الكون لابد لتراكمها الكثيف هذا أن يحوّل إلى مواجهة جمالية معه، مواجهة يكتبها موسى عمر بعناية ودقة بالغتين لا تسرّع واضطراب فيها، يستعمل من خلالها كعادته أسلوب اختزال الكون من حوله في علامات ورموز وأحرف... ينسج من خلالها وطاقات خامة الخيش واللون أغنياته للشمس، هذه المرة باستعمال التضاد اللوني أغلب الوقت حيث تتعانق الألوان الحارة والباردة ببروز على خلفيات فاتحة وهادئة حينا وداكنة ومتحركة حينا آخر، وتنصهر مع مستويات الأقمشة وملامسها المختلفة، لتتآلف وتعطي الانطباع بالعمق من دون منظور بل من خلال تلك العلاقة المحكمة بين الكتل وحسن توزيعها، كما حسن توزيعه للضوء والظلّ من خلال قتامة الألوان حينا وإضاءتها حينا آخر وهذا ما خلق ايقاعا ملمسيا ولونيا على جسد المحمل بين الأسطح المستوية والمحجمة، ليشحن قوة تأثيرها البصري على المتلقي بشكل أعمق...حيث يتمكن من تغيير زوايا نظره للأعمال التي لا تعطي نفس القراءة في كل مرة...فما يتم إدراكه من زاوية معينة سيتغير بمجرد تغييرها لتظهر أجزاء بشكل أبرز وتبتعد أخرى بالمقابل، كما أن اللون الواحد لا يعطي ذات الانطباع على المسطحات والنتؤات فيساهم هو الآخر في إعطاء عمق وديناميكية للأعمال. التي تميزت أيضا بحضور دائم ومدروس للأبيض الذي يحضر تارة في شكل قماش شفاف مفتوح على شكل دوائر تخفي في الحقيقة لتكشف، أو على شكل علامات ورموز وحروف تتوزع بدقة على كامل مساحة العمل الفني أو هو أشكال هندسية كالدوائر والمربعات والمستطيلات المحرفة لإعطاء توازن وجمالية اكثر للتركيب إضافة الى رمزية حضورها.
هذا الاختزال الرمزي للكون على شكل دوائر ومربعات وحروف وأسهم وعلامات تقاطع...يخلق نظاما بصريا خاصا بالفنان لتحولاّت الأشياء من حوله، فيتحوّل بمقتضاه المدلول عن طريق عملية التجريد هذه ولا يعود مرتبطا بتمثل الموضوع بقدر ما يكتسب حريته فيعبر من خلاله الفنان بطلاقة وينسج علاقات تفاعلية كثيفة بين الأشكال والخامات والألوان ويتحوّل اهتمام المتلقي من محاولة فهم الموضوع الى الاستمتاع بذلك النظام البصري المحكم الذي تتفاعل من خلاله كل مكونات وعناصر الإثر الفني الذي يخاطب إدراكه الحسي.
نشوة الاستقلالية عن أي مرجع في حد ذاته أثناء عملية الرسم والتركيز على الانطباع الذي يتركه في ذات الفنان، تسقط على المتلقي فتسحبه معها الى عالم الخيال الذي لا يمكنه ولوجه عن طريق النظر الى ظواهر الأشياء. فعلامات الفنان ورموزه تجردت نهائيا من المحسوسات لتكتب نصا بصريا يدعو للتفكير والتخيّل، وخاصة يؤدي الى التعدد، إلى وجهات نظر الفكر المختلفة وكل وجهة نظر إزاء الاثر هي صفة من صفات التعدد، هي صفة الجوهر وما الجوهر سوى ما يلوّح بحضوره من خلال الأثر الإبداعي، فالكون بالنسبة للفنان كينونات في وضع اتصال وانفصال دائمة الحركة، حركة تقتحم مرسمه عن طريق فكره مع كل بزوغ شمس جديد لتذكره بأن الجوهر هو المختلف والمتحوّل والمتحرّك الذي لا علاقة له بالثابت والنهائي.
هذا الوجود الجمالي المختلف في كل مرة لخامة الخيش التي أسرت الفنان وأغوته ليطوّعها في أعماله في كل مرة بحضور جديد يجعلها في صراع دائم مع المحمل فحينا تلتحم معه، لتنتفض عنه أحيانا أخرى وتتمرد إما بخلق أحجام و نتوءات وملامس مختلفة وإما بالخروج عن إطار المحمل القماشة... فهل ينبئ هذا بحضور ثلاثي الأبعاد مستقبلا؟