كان من الممكن أن أسرد لكم بقية القصة في مدينة عمّان وذلك بعد أن تناولنا الإفطار في مطعم أبو جبارة ثم انطلقنا الى وسط المدينة مع صاحبنا أبي حازم لولا أنني تذكرت موقفا حصل في صباح ذلك اليوم، وهو موقف خاطف لكن سوف تترتب عليه أحداث مهمة تؤثر على مجرى رحلتنا هذه، ذاك أنني حين كنت مصغيا إلى أبي حازم في بهو الفندق وهو يحدثني عن بعض الاعمال كما ذكرت لكم سلفا قد شد انتباهي وقتها أن جمالا كان منهمكا في حديث شيق مع فتاة من الفتيات العاملات في الفندق، كانت تلك الفتاة على قدر من الجمال فهي ربعاء ممتلئة، ووجهها مرح باسم كوجه طفل، أما عيناها فقد كانتا هادئتين تفيضان طيبة وألقا، وقد كان شعرها الطويل الأسود معقوفا على بعضه فوق رأسها بشكل بسيط ومهذب، وهي تقف مستقيمة القوام أمام عمود يتوسط بهو الفندق واضعة يديها خلف ظهرها كوقفة مدير المدرسة في طابور الصباح، كان جمال يحدثها وعيناه تتلألآن وبهجة تعلو أسارير وجهه، لهذا لم ألبث حين انطلقنا في سيارة أبي حازم الى وسط المدينة أن سألته: جمال من هي تلك الفتاة التي كنت تتحدث معها في الفندق؟، أجاب وكأنه لا يدري عن الموضوع شيئا: أي فتاة؟
أي فتاة، الفتاة التي كنت تتكلم معها الصبح لما كنت أنا جالسا مع بوحازم، (تفكرني ما شايفنك!
هاهاهاها)!!.
ضحك ونكزني في كتفي طالبا ألا يلاحظ أبو حازم ذلك وأن لا يعرف عن موضوع الفتاة شيئا، إنه من ذلك النوع من الناس الذي يخجل من أن يفصح عن جوانب شخصيته الحقيقية لغريب، فتراه يداري نفسه عن الغرباء ويتقنع بأقنعة لا تمت الى شخصه الحقيقي بصلة، كذلك أبو حازم نفسه على ما فيه من فضول وتطلع لم يعرف من شخصية من هذا الإنسان شيئا، فقد ظل يسألني بين الفينة والاخرى أسئلة غريبة، مثل: هل هذا ابن الشيخ فلان؟، أو هل هو قريب للشيخ فلان؟ أو أليس هو الذي يشتغل مع الشيخ فلان؟ وأنا أقول له لا، لا، لا، ليس هو، وهو يرمقني باندهاش واستطلاع حتى وكأنني أكاد أجزم أنه يريد أن يقول لي ها إذن من يكون جمال هذا الذي اخترته مصاحبا لك في سفرك دون كل المشايخ والأصدقاء الذين أعرفهم؟! ولماذا هو مسافر معك؟ حتى إنه لا تبدو عليه أي من سيماء المشيخة أو المسؤولية؟ لا يبدو عليه شيء من ذلك حتى حين يجلس الى مائدة الطعام أو حين يجلس باسترخاء ولامبالاة في المقعد الخلفي، لا يمكن أن تحرز سوى صورة سلبية لشخصه، وأنا أرد على نظرته تلك بنظرات حادة حارقة غاضبة حتى ينكسر بصره ويتراجع عن نظراته المستنكرة، ويشيح بوجهه الى أمام مكملا قيادة السيارة، ثم أسأله: وين راح تودينا يا أبو حازم؟
(اليوم باخذكم على وسط البلد عشان تشوفوا المنطقة القديمة والسوق القديم، بعدين بنروح على المدرج الروماني وجبل القلعة، بعدها بطلعكم على بيتنا القديم في المنطقة الحجرية القديمة فوق التل. وبكرة راح اخذكم على المناطق الي برع عمان، متل البتراء وجرش واربد وحمامات معين، واذا بدكم حتى اوصلكم للبحر الميت، ما عندي مشكلة)..
لا شكرا، كفاية أنك تفسحنا اليوم، ما نريد نشغلك أكثر من كذا.
كان أبو حازم يقود سيارته بكل رشاقة وفتوة وجدية حين سألته عن المسافة حتى نصل الى وسط المدينة، فأجابني بكل هدوء وتقرير: أن مسافة الطريق العادية الى وسط المدينة قد تتجاوز الساعة لا سيما في هذه الساعة من الزحام الشديد، ثم يصمت وهلة ليبعث في نفوسنا الضجر والضيق بسبب طول الطريق، لكن ما يلبث حتى يعود ليخبرنا أنه بخبرته سوف يوصلنا الى هناك في ظرف ربع ساعة، فهو أبن هذا المنطقة وقد ترعرع فيها صغيرا ويعرفها طرقها المختصرة سكة سكة، وفعلا بعد ربع ساعة من المرور بين الأزقة والشوارع الضيقة والفلل الحجرية القديمة، وجدتنا في وسط البلد وهو يصعد بنا في ممر حجري تحيط به المحلات الفاخرة والمطاعم السياحية والحانات، ثم أخبرنا أننا الان في شارع الرينبو وهو أحد افضل المزارات السياحية الجميلة، كان يقود سيارته ببطء شديد وهو يعلو ويهبط من التل ليتيح لنا فرصة مشاهدة المدينة من أعلى التل، وفجأة سأله جمال بكل غباء: لكن أنا لا أرى أي سياح ولا أرى أحدا يمشي في هذا الشارع.
أجابه أبو حازم وقد تملكه الاضطراب من هذا السؤال، (الحين ما فيه سياحة يا استاذ، السياح بيجوا بالليل وفي موسم السياحة، أصلا لو كنا في موسم السياحة كان الشارع مقفول، وما راح نقدر نعدي الا بالمشي، الشارع يكون مقفول كليا في الموسم. فاهم عليّا).
أيوا فاهم عليك.
أجاب جمال بذلك وهو يتأمل أسقف المنازل ونوافذها التي تزدان بالشجيرات الخضراء المتسلقة من حدائق المنازل الدانية فتكسب اللون القاسي الفخم للرخام الاردني الذي يكسو معظم البيوت والفلل هنا تكسبه لونا أخضرا متشبعا بالحياة، تراها متسلقة قابضة على شباك البلكونات المتأنقة بأواني الأزهار الحمراء والصفراء والزرقاء والبنفسجية، دون أن تحجب النقوش العربية المنحونة بدقة في حائط تلك النوافذ الزجاجية وفي أسقف الفلل، ثم تراودني فكرة مهمة بين ذلك التأمل فأنبهه: يا أستاذ جمال... نعم يا شيخ.
لماذا لا تكتب عن الأردن وعن روعة وحسن هذا البناء والتصميم والأناقة في الفلل الاردنية. أنظر كيف كل البنايات والفلل مبنية من الحجر ومن الرخام والجرانيت الثمين.
(اممم، صحيح والله، بشوف كيف، بس ليش كل بناياتهم وفللهم من الحجر، ما غالي الرخام والحجر الطبيعي؟ اظنه غالي).
يتدخل أبو حازم مجيبا على تساؤل جمال: (طبعا غالية بس تراه هذا بناء قديم، وما اي واحد يمكن يكون عنده فلة زي هذه الفلل، بس البيوت الكبيرة المعروفة هي الي عندها، زي معكم في مسقط مش كل الناس ساكنة في فلل وقصور).
ثم يضيف وهو يصطنع التواضع وعدم المبالاة: (انت بس اصبر علي شوية راح اورجيك المنطقة القديمة تبعنا وراح اورجيك بيتنا والمسجد الي بنيناه والي كتب فيه والدي الله يرحمه بخطه ــــ بسم الله الرحمن الرحيم ــــ ).
وفعلا عبرنا من شارع الرينبو الى تل آخر، كل المنازل فيه قديمة من الحجر، حتى الشارع مفروش بمربعات من الحجر الطبيعي الصلد الذي يزداد لمعانا وبريقا كلما كثرت الخطى وعبور المركبات عليه، ثم وقفنا عند مسجد صغير في علية ذلك التل، وأخبرنا أنه صلى في هذا المسجد وشهد بناءه صغيرا بل أنه يتذكر جيدا حين كان والده رحمة الله عليه صاعدا على سلم خشبي بلباسه العربي الشامي الاصيل وهو ممسك بأداة نحت وفرشاة وعلبة صبغ أسود وأمامه ذلك اللوح الرخامي الابيض الكبير ويكتب ( باسم الله الرحمن الرحيم ) ، كان أبو حازم يقول ذلك ويشير الى تلك الكتابة بكل فخر واعتزاز مبرهنا على ارتباطه الوثيق الصادق بهذه الأرض، ثم عرج بنا على منزل صغير رخامي على طرف السكة وقال لنا إن ذلك هو منزلهم ومرق بسرعة دون حتى أن يقف عنده.
ثم عبر بنا بين أزقة أخرى حتى أوصلنا الى المدرج الروماني ولم أشأ حقيقة أن أترك مقعدي في السيارة لأشاهد هذا المدرج، فأنا ـ وأرجو ألا يسوؤكم ذلك - لا تستهويني الآثار ولا القبور ولا المدن ولا بقايا الحضارات القديمة، ليس ذلك تقليلا من أهميتها وأثرها على التراث الانساني العالمي ولا تنقيصا من شأنها في ربط الحاضر بالماضي والتوصل من خلالها الى افضل ما يمكن التوصل اليه من المعرفة والحقائق العلمية والجيولوجية والتاريخية والأحفورية، لا ليس شيئا من ذلك، فأنا أعترف لها بكل هذه الفضائل والاهمية لكنها مع ذلك لا تستهويني، وأرجو أن تقدروا رأيي وميولاتي فلكل إنسان رغبات وميول، ربما كان ذلك عائدا إلى أنني وجميع من هم في جيلي من العمانيين عاشوا طفولتهم بين الاطلال البالية والافلاج والحصون والعرشان والبيوت الطينية القديمة، إنها جزء من مكوننا العماني وبالتالي هي لا تثير فينا ذلك الاندهاش الذي يمكن أن تثيره في شاب ولد في بيوت حديثة وبيئة متطورة مثل جمال ومن في جيله، لذلك لم أستغرب حين أسرع الى الدخول الى المدرج ليلتقط بعض السلفيات والصور، عموما المدرج الروماني هو أحد أهم الآثار الرومانية الشهيرة في الأردن وفي عمّان خاصة، بل هو المحطة الأولى لجميع الزائرين للمدينة، وموقعه بالضبط في الجانب الشرقي للعاصمة أسفل جبل القلعة، طبعا يجب ان أشير لكم حتى تتضح الصورة أن هناك سبعة جبال في عمّان، أو الافضل أن نقول سبع تلال فهي ليست كبيرة جدا كهذه الجبال الموجودة لدينا في سلطنة عمان، لكنها وسط بين هذا وذاك بل هي أقرب حجما لجبال مدينة مطرح، ومن هذه الجبال السبعة تتألف مدينة عمّان القديمة، وجميعها طبعا مأهول بالبيوت والمنازل والبنايات المغروسة فيها غرسا من أسفلها حتى أعلاها، حتى أني لأتساءل كيف يمكنهم تثبيت هذه الأبنية بعضها فوق بعض دون حتى أن تسقط، وكيف استطاع هؤلاء المقاولون بناءها بهذه الطريقة، ولماذا في مسقط لا يمكننا تعمير الجبال واستغلالها دون إيذائها بالهدم والتسوية، وبين هذه الجبال السبعة أودية، ونحن كنا على سفح جبل الجوفة وأمامنا جبل القلعة، وقد بنى الأردنيون القدامى هذا المدرج أيام هيمنة الامبراطورية الرومانية على الشام وذلك اكراما لامبراطور روماني يدعى مادريانوس في سنة ١٣٠ ميلادي، والحقيقة أن هذا المدرج هو عبارة عن مسرح كبير جدا ومفتوح ومنحوت في الجبل، مثل مسرح المدينة الذي في حديقة القرم، لكنه أكبر وأقدم وأكثر هيبة وفخامة، وليعذرني الأردنيون على المقارنة الظالمة، وقد كان الاردنيون قديما يستخدمونه لعروضهم الغنائية والمسرحية واحتفالاتهم، ففيه بوابات حجرية وغرف لتجهيز الفنانين والمسرحيين وفيه أيضا متحفان صغيران حديثان، يقول أبو حازم أن هذا المسرح ما زال يستخدم حتى الآن في المناسبات والحفلات الكبيرة، والأمر الغريب فيه هو أنه على الرغم من ارتفاع مدرجاته لأكثر من ثلاثة طوابق الا ان القاعد في اي ركن فيه بإمكانه الاستماع الى صوت العرض بكل وضوح وأريحية.
وانتظرنا في السيارة ريثما يعود جمال من التقاط صور المدرج، وحين عاد أخبرناه بما اتفقنا عليه أنا وأبو حازم في غيابه وهو أننا سوف لن نذهب لزيارة القلعة فوق الجبل لضيق الوقت ولأنه لا يوجد هناك شيء يستحق الاهتمام والزيارة سوى سور حجري كبير يحيط ببعض الأعمدة وبعض الحجارة المكدسة يقال إنها معبد لقيصر الروم هرقل، إلا أنه أصر أن نصعد إليها وشرح لنا بتوسل كم هو حريص ومهتم بالآثار والتاريخ القديم وأنه يبحث عن هذه التفاصيل الصغيرة لإنها تزيده ثراء معرفيا نابضا وأن هذه الزيارات هي مصدر معرفي حي وثمين وهي أبقى في ذهنه وذاكرته من قراءة الكتب والتاريخ، وأنه ربما لا تتاح له فرصة أخرى في حياته أن يعود الى الاردن لمشاهدة هذه القلعة، فمن يدري لعله يموت الليلة أو غدا دون حتى ان يعرف عن القلعة شيئا، لقد أسهب في توسله ومحاولة ثنينا عن رأينا لكن دون جدوى فالسيارة قد اجتازت السفح الى شارع الملك فيصل وسط البلد، حيث يقع أول مبنى للبنك العربي عند تأسيسه، ولهذا البنك قصة عجيبة سوف أخبركم إياها لاحقا، ويحيط بهذا الشارع المحلات والاسواق القديمة جدا للاردنيين وللفلسطينيين، يقول ابو حازم أن هذا الحي يسمى حي المهاجرين لأن آباءنا الفلسطينيين حين نزحوا من فلسطين سنة ٤٨ سكنوا اولا في هذا الحي، ومدينة عمّان هي مدينة قديمة جدا وكانت تسمى قديما عمون وفلاديلفيا ومدينة التلال السبعة وهي أيضا مذكورة في كتب التوراة والانجيل، وكانت اصلا واحة لاستراحة الحجاج الذين يأتون من العالم الغربي والعلوي قاصدين مكة المكرمة، واستراحة للحجاج الذين يأتون من العالم الشرقي والسفلي قاصدين زيارة القدس، ومن هنا كانت اهميتها، وقد عمرها الهاشميون حديثا واتخذوها عاصمة لهم عند تأسيس المملكة الاردنية الهاشمية، أما قبل ذلك فقد كانت إمارة من إمارات الدولة العثمانية، وكان يديرها الشركس الذين هاجروا بسبب الظروف السياسية من بلدان القوقاز الى عمّان.
وبعد أن فرغنا من الجولة السريعة عرج بنا أبو حازم على مطعم حبيبة، وهو أحد أشهر المطاعم القديمة في الأردن وما يميز هذا المطعم هو أنه لا يقدم شيئا من المأكولات سوى الكنافة والقهوة، وهو الى كل ذلك مطعم كبير جدا يشغل بناية كبيرة مكونة من ثلاثة ادوار، وفيه أنوع مختلفة ومتنوعة من الكنافات ذات المذاقات المتنوعة التي تسلب الألباب، خاصة انه تم تحضيرها لينة ساخنة بالطريقة التي أشتهيها ثم إغراقها بماء السكر وإلحاقها بقهوة تركية مفعمة بالدفء والرائحة الزكية.
وبعد تناول الكنافة في مطعم حبيبة كان من غير اللائق أن نثقل كاهل أبي حازم بأكثر مما قام به من جميل وواجب فسألناه أن يتركنا وأن يعود إلى عمله وعائلته، إلا أنه أصر على أن يرسل لنا خفيره الخاص (السائق) ليقوم بأخذنا في جولات في داخل عمّان وخارجها طوال فترة بقائنا في الاردن، طبعا رفضت عرضه وشكرته عليه.
وحين غادر ابو حازم شعرت بفراغ شديد وألم في ظهري، كنا نقف في شارع الجامعة، لا ندري الى اين نذهب ولا ماذا نفعل، وكنت أشعر بعظام ظهري تزداد إيلاما ووجعا، اقترح علي جمال ان نمشي في المنطقة على الاقدام لنكتشفها، ومشينا شرقا ثم عدنا غربا، لم نجد ما يثير اهتمامنا، وانتابني شعور رهيب من الملل والضجر، فقد كنا لا نرى حولنا سوى البنايات الشاهقة وتحتها مطاعم كبيرة ومحلات ملابس وحلاقين ومحلات الهواتف، والوقت ما زال عصرا، ثم بعد تفكير عميق وتشاور رأيت أنه لا جدوى من البقاء في هذه المدينة فهي باردة جدا ومزدحمة والناس مشتغلة بأعمالها اليومية، وهذا الوجع المستمر في ظهري، قلت لجمال: لو كنا ذهبنا الى القاهرة لما شعرنا بهذا الملل.
إلا أن جمال سخر من ضجري وقال إننا لا زلنا في بداية الرحلة وأن لديه خططا وأماكن عثر عليها في الانترنت سوف تجلب السعادة والبهجة في نفوسنا، قال لي انتظر حتى الليل يا شيخ وسوف آخذك الى الموسيقى والجمال والطعام والراحة النفسية وحكى لي بخياله بعض الصور التي لا يمكن أن أذكرها هنا والتي فعلا جعلتني انتظر الليل بفارغ الشوق.