الكثير منا يتساءل بين الحين والآخر، كيف يبدو المستقبل البعيد؟، وماذا سيحدث إذا!..، وكيف سيكون لو؟..، وغيرها من الأسئلة الفضولية التي تتخطى الزمن، وكأننا قد ضمنا البقاء على قيد الحياة لهذا الوقت !.
إنه الفضول الذي يعتري السينما أيضا، التي تنذرنا دوما بمستقبل مظلم بعد نقلة تكنولوجية كبيرة وتحول ثقافي مجتمعي لن نتوقعه، وذلك عبر العديد من الأعمال التي تتحدث عن حرب نووية ضخمة مدمرة تعصف بالبشر وبمقدراتهم، مايعرف بسينما "الديستوبيا".
السؤال هنا، كيف ستصبح الحياة اذا أُرغمنا جميعا على العيش بدون تحدث، "السكون التام" هو ملاذك الأمن للبقاء حيا..
مكان هادئ أو (A Quiet Place) : أحد تلك الاعمال "الديستوبية" التي تندرج تحت فئة أفلام الرعب والاثارة أيضا، قام بكتابة السيناريو الاولي له، الكاتبان برايان وودز وسكوت بيك ، فيما اعتمدت النسخة الاخيرة للسيناريو تلك التي كتبها جون كراسينكسي، مخرج العمل ومؤدي دور البطولة فيه أيضا.
سيناريو فريد من نوعه ومبتكر، على مستوى طبيعة درامته وفكرته ذات العيار الثقيل ـ لا اتذكر أنني شاهدت فكرة عمل كتلك من قبل.
الافتتاحية جاءت مدهشة للغاية، ارتكزت على قاعدة نفسية عميقة كانت مشوشة في البداية، لكن كراسينكسي عمل على إرسائها بالتدريج واستغلالها بطريقة مثالية، لتنطلق بعدها أحداث العمل، حينها ستكتشف الأمور الغامضة، ليتم حصارك داخلها تبدأ في التفاعل معها كأنك واحد من الشخصيات وجزء من العمل وهو ما أعتبره نجاحا وتفردا بالمستوى الاخراجي.
السكون التام ولغة الاشارات، هما بطلا "مكان هادئ" والتحدي الاكبر لجميع القائمين عليه، والذي يعتمد عليهما كراسينكسي ويستفيد منهما الى أقصى ما يستطيع في شريطه الذي لا يعتبر رعبا أكثر منه اثارة وهذا لا يمنع أن هناك بعض المشاهد التي هدفت الى بث الرعب في قلوب جمهوره، وجذب عدد كبير منه.
الذكاء هنا حينما تدخل عامل الدراما في مثل تلك النوعية من الاعمال، ما يعطيه بعدا آخر، فيما يتم التعامل مع النتائج لا مع الاسباب، بمعنى انه لن يشرح كراسينكسي كيف أضحت البشرية هكذا؟ ومن أين جاءت تلك الكائنات الغريبة، لكنه يكتفي بكيفية التعامل مع الموقف الحالي، متأثرا بمدرسة السير ألفرد هيتشكوك.
الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية ـ خاصة استخدام المياه في لقطة مثيرة ـ لعبا دورا هاما فى الأحداث والتنقل من مشهد الى أخر بشكل مفاجئ وصادم أحيانا. وبالرغم ذلك إلا أنه سقط في فخ "التقليدية" حول تصميم تلك الكائنات التي تبدو كإحدى وحوش سلسلة " فضائيون" أو" Aliens"، وهي غير قادرة من البداية في ظني على بث رهبة ورعب كافي، ومع هذا يحسب للمخرج محاولته جاهدا عدم ظهورها كثيرا في مشاهد الفيلم، مكتفيا بالاعتماد على أصواتها وحركتها من بعيد.
البطولة من نصيب جون كراسينكسي في دور الأب "لي"، بينما تؤدي دور الأم "إيفيلين" الممثلة إيميلي بلانت ـ وهي زوجته في الحقيقة، والأبناء "ريجان" تقوم بتجسيدها الممثلة الصغيرة ميليسنت سيموندز، و"ماركوس" الممثل الطفل نوح جوبي.
تحية وتقدير للأداء التمثيلي الرائع، تفرد وإبداع تخطى كل المستويات، خاصة الرائعة إيميلي بلانت التي استحوذت على مشاهد كاملة وضعتها في معضلة حقيقية تمكنت من تخطيها بكل مهارة تمثيلية، أيضا جون كراسينكسي التي اثبت امتلاكه امكانيات تجسيدية هائلة لم تكن لتعرفها قبلا، فهو في الاساس كوميديان، دعنا لاننسى أيضا الدور المميز التي قامت به ميليسنت سيموندز، الابنة الصماء ـ وهي صماء في الحقيقة أيضا، اعتقد أنه اختيار ذكي لأجل إضافة مزيد من المصداقية ورفع مستوى التعاطف مع مأساة العائلة.

أسلوب حياة
تبدأ أحداث العمل في مدينة نيويورك عام 2020 ، حيث تصبح البشرية في تناقص مستمر بسبب انتشار كائنات سريعة جدا وفتاكة، لا نعرف ماهيتها!، ومن أين جاءت؟، ما نعرفه فقط انها عمياء لاترى، لكنها تملك حاسة سمع استثنائية تلاحق البشر بتتبع أصواتهم. لذا يتوجب على من تبقى من البشر على قيد الحياة أن يلتزموا بأسلوب حياة صامت على نحو كامل.
عائلة لي، إحدى تلك العائلات التي تكافح للبقاء على قيد الحياة، حيث وضع الأب أسلوبا خاصا يلتزم به كافة أفراد عائلته، كالتواصل بلغة الإشارة أو الهمس، المشي حافي الاقدام، والأكل على أوراق الاشجار، وغيرها ..، نجده يجلس فترات طويلة في مرآب المنزل الذي منع أطفاله من التواجد به، يعكف على قراءة ماتبقى من قصاصات الصحف حول تلك الكائنات في سبيل القضاء عليها، ويراجع التجهيزات الأمنية التي أسسها حين حدوث أي طارئ، فيما يحاول تطوير صنع جهاز اذن صناعى اعده لأبنته الصماء.
الأم نراها حاملا تقوم بتحضير التجهيزات اللازمة للولادة، بينما تتابع شؤون المنزل وتقوم برعاية طفليها الاثنين، بعد أن لقى شقيقهم الأصغر، مصرعه في هجوم من قبل تلك الكائنات.

مخاض مبكر
يتابع العمل أحداثه، وفي اليوم 473 من وصول الكائنات للأرض، تدخل إيفيلين المخاض مبكرا، في وقت يتوجه فيه الأب وإبنه الى الصيد، بينما تذهب الأبنة الى المكان الذي مات فيه شقيقها الصغير. وبالرغم من بقائها وحيدة في المنزل وتعرضها لحادث تنغرس فيه قدمها بمسمار، الا انها تنجح فى البقاء صامتة الى حد ما، لكنها تستدعي عائلتها عبر جهاز الانذار الذي صنعه الأب وهو عبارة عن أضواء تنار باللون الأحمر وقت الخطر.
يسارع الجميع لإنقاذ الأم ، المحاصرة من تلك الكائنات التي يدخل إحدها الى المنزل بالفعل، في اجواء متوترة لحظة ولادة الطفل وصراخ الأم.
يتمكن الأب من إلهاء الكائنات بواسطة الألعاب النارية، ليبتعدوا عن المنزل لكنه للأسف يلقى حتفه بهجوم منها، فيما تتمكن الأم من قنصها بعد أن تعرف الابنة نقطة ضعف الكائنات عن طريق المؤثرات الصوتية التي تصدر عبر سماعة اذنها الصناعية ـ تعتبر نقطة ضعف بالسيناريو، ليتركنا المخرج في نهاية مفتوحة تعتبر شبه محسومة لأن العائلة بعد تضحية الاب أصبحت تعرف كيفية القضاء على تلك الكائنات المتوحشة.
مكان هادئ.. عمل استثنائي غير تقليدي من حيث حبكته الرئيسية وطريقة تنفيذه، نحن أمام نطاق واسع ومتنوع للتعبيرعن مشاعر الخوف والذعر الممزوجة بالآلم ، الحزن والحذر، تبرز قوة وصدق الاداء التمثيلي الذي يعتمد على تعابير الوجه والجسد. فصول من الاثارة وحبس الانفاس مسترسلة بعناية وذكاء دون إعطاء اي هدنة للمشاهد، في توظيف رائع لمكونات الدراما. بالتأكيد وضع قدما له ضمن قائمة أفضل أعمال 2018.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]