أنوثة الكلام .. بين التمرد المنسيّ والذاكرة اليابسة
بيئة السلطنة القديمة، وفقا لما تركته الثقافة الشعبية من إرث سلوكي تتعاطي فيه الشرائح المجتمعية مع بعضها، كان لديها ضمور في مستوى الحضور النسوي المقارن في الجوانب ذات الصلة بالحراكات المؤثرة، والضمور هنا لا يعني الإلغاء، بقدر ما يعني قلة العدد النسوي مقارنة بكثرة عددية هائلة لأقرانهن، وهي الحراكات ذاتها المؤثرة على الهارموني الذي كاد أن يفقد حضوره الفاعل.
على مستوى الفنون الشعبية العمانية، يبدو أن الفعل النسوي فيه قليل، بل يكاد على مستوى الانتشار والذيوع يحضر الرجل شعريا أكثر من المرأة، وهو الحضور المثير العديد من الأسئلة المرحلية، وعلاقتها بتراكمات سابقة عليها، أدّت إلى بروز مشهدية ذكورية في التعاطي مع القصيدة المانحة روح الحياة للشعور والإيقاع المتزامنين مع الفنون المنتمية إليها.
الأسئلة لم يكن لها أن تظهر حينها، لأن ذلك هو المألوف، لكن عندما انكسر المألوف، ودخلت خارطة الطريق الشعرية أصوات نسوية مزاحِمة، تبدل الرؤية والمنظور كلاهما.
إذا كان (الحيدري) ترك بصمة واضحة ومؤثرة وريادية في قصيد الفنون الشعبية العمانية، فإن (الليسُو) - في فترات متفاوتة- استطاع أن يكون ذا بصمة هو الآخر، متوافقا مع السمة التنافسية التي حملت العديد من الرسائل الضمنية، التي كان لها تأثيرها في مرحلتها، لأسباب فنية وإبداعية وموضوعية، لكن تراجع هذا الأثر، حتى تماهت (الأسماء الليسُوِية) في النسيان.

قارّ ومخلخل
ثمة ما هو قارّ في الذاكرة الجمعية العمانية، مما جعله قاعدة عامة، مألوفة ومستساغة، وبالتالي يكون الخروج عليها بمثابة خلخلة في البُعد المألوف الذي عليه توافق الناس وله امتثلوا.
في المجتمعات التي تمثل فيها نسبة الفكر القارّ علامة على ما يشبه العادة والعرف، يصبح فيه مفهوم (الخلخلة) غير مرغوب، وبالتالي يتحول - إبّان تشكله - إلى ضجيج غير مفهوم، ولكن استمراره يصبح مرغوبا، إذا أكد اختلافه وقدرته التنافسية، من خلال استحسان الناس رسالته وتكوينه وسريانه في العقول والقلوب.
لا يمكن القول إلا أن بيئة الفنون الشعبية في المجتمع العماني القديم مشغوفة بما هو قارّ، ولأنه المجتمع كذلك، فقد شهد خلخلات في مختلف فنونه، سواء ماكان منها إيقاعيا أو غير إيقاعي، مما أجبره على السماع، والسماع هو العتبة الأولى للاعتراف، حتى باتت تلك الخطوة هي مفتاح تنافس، يستقدم منها المكان بثقافته الجمعية المألوفة جماليات تسربت إلى وجدانه حتى بات هو جزءا منها.
السبب في ذلك هو أن (الخلخلة) كانت إيجابية، بدليل التراكم الذي أحدثته حينها، وغيرت من خلاله قناعات ومفاهيم، وجذرت تساوي الشعور الفني والمخيالي في نقل المشهد وتحويله إلى أيقونة وجدانية ذات زخم مهم.
المرأة العمانية - آنذاك - كانت أُسّاً في عملية الخلخلة تلك، لأنها كانت موضوعها وجوهرها، خارجة بـ (الليسُو) من (الحياب) إلى الفعل التغييري وبناء (الشَّلّة)، بدلا من التفرج والتعايش مع المشهد.
على مدى عقود طويلة من عمر الفنون الشعبية العمانية، عاش المجتمع العماني القديم خلخلات مختلفة، مما جعله معترفا تماما ببصمة النساء العمانيات الشاعرات بريادة المختلف الشعري الذي سكبنه في (رمسات) ليل، كُنّ فيه أقماره، وكان الشعر خيار المساحة التي صنعنها لأنفسهن.
هذا التمرد، على الرغم من يقينه المتأسس على خيار التنافسية، وبعد عقود من الأزمنة الأجمل، تمت مكافأته بذاكرة يباس، ليرجع (المُخٌلخِل) إلى (القارّ)، وإن بظروف زمن جديد، فلا بحث عنه، ولا سِيَر تروى.

شرفة ليل
تطل الـ (رمسات) من شرفة ليل، حيث يبني الطرب قصوره و(لالـ) ــه، وتتمايل (مقاصبه) على إيقاعات (الكاسر والرحماني)، وتخرج من التفاصيل البعيدة في اللاوعي، والذاكرات المستكنات، والحنين العميق في الروح، تخرج كلها في تلك المساءات التي تجمع (المهُوْيين) من كل حدب وصوب، سواء بـ (تناهُم) قريب، أو بـ (تسامع) بعيد، أو بـ (نَبّة) عرس أو ختان، بغضّ النظر عن الطرائق، ولكن الدرب واحد، حيث قاد إلى ليل يرقص ويغني، وبشر تركوا لذيذ النوم مقابل نشوة لن تتكرر في قريب عاجل.
الشاعرة العمانية كانت هناك، على الشرفة، تطل نحو الليل، وتغرق فيه بمصباح قصيدتها، وتشعله بالحنين والتنافس، وتنصهر فيه باللفظ والدلالة، وتبني تكوينه بالمعنى والمغنى، بين جمع كثيف من الرجال، تُخلخِل المألوف والقارّ، وتضع جملتها الشعرية كما تنساق إليها عبر المخيال والذكاء، تواري المعنى، وتصنع دلالاتها بحرفية متناهية.
وربما لم تكن في الـ (رمسات) تلك، لكنها أرسلت - وهي في صحرائها- شجنها الخاص، (يسري) مع الليل، كالحنين يأتي للبعيدين مأخوذا بالشجن، وربما لن يعرفها أحد، ولكنها كانت أمام شرفة الليل أيضا، لم تسمح للقارّ أن يطال وجدانها ولغتها وتنغيمها ولحنها الصافي.
شرفات ليال كثيرة في البيئة العمانية القديمة كانت منها الشاعرات العمانيات يرسلن أصوات قلوبهن، ويرسمن بمخيلاتهن لوحاتهن الخاصة، ويفتحن مسارات من نور نحو سماواتهن البعيدة، التي ستظل عصية على الاستكناه، وعلى الرغم من تمردهن الجميل، لم يفارقن الذاكرة اليباس.

بنت غْفيل
(خِطَفْنا عْلى ناسٍ وطا يبكون.. وانا من بكاهم بكى فْوادي)
قول قديم، فكرة وجدانية، شعور إنساني، ودلالات واسعة لمخيلة قادرة على التناسل والاستيلاد، هذا القول الشعري، يكاد أن يكون استشهادا لمواضع سلوكية إنسانية مختلفة، أرسلته للذاكرة، واحدة من أهم شاعرات الفنون الشعبية العمانية، الشهيرة بـ (بنت غفيل)..
ليس الموضع الكتابي تأريخيا، بل محاولة لفهم ما يعنيه أن تصبح امرأة عمانية واحدة من ألمع مبدعي الشعر في وقتها، وأن تتمرد على القارّ مكانيا، وتخرج عن مألوف القاموس النسوي المعتاد، وتفتح لذاتها سماوات لامتناهية في ذاتها ، باحثة عن الأصدق والأكثر تحفيزا على بناء نهج خاص، رؤية مغايرة، وقاموس لفظي لا يتنكر لأنوثة الروح، ولكنه - في الوقت ذاته - لا يؤمن بدفنه في الصمت، بل مكانه هو العلن، لذلك آمنت أن خلخلتها مفاهيم المألوف، هي بدايتها نحو ما هو مختلف.
(حوه عليها مـ قْواها)..
بهذا التعبير الشعبي كان أحد الشيّاب يعبّر عن موقفه من بنت غْفيل، كلما استشهد بمناظرات شعرية لها في الـ (رمسات) وهي تواجه شعراء من ذوي مقامات عالية ذوي مُريدين كُثر؛ كان يعي ذلك الرجل المستشهد والمستغرب في الوقت ذاته معنى ما يقول، فهو لا يعلق على الموقف الشعري فحسب، بل عن الجسارة وحضور البديهة وذكاء التعامل وقوة الشخصية والاستقلالية الفكرية، كل ذلك ينضوي تحت يافطة عبارة واحدة، وتلك ليست بهيْنة ولا بسيطة، إذا قرنّاها بمرحلتها الزمنية، ولكنها (بنت غْفيل)، شاغلة الناس في وقتها، وصديقة الغيم.
هذا التمرد له مرجعية، له ذاكرة، له نشأة وتشكل، له تكوين، لم تكن لتصل بنت غْفيل إلى ما صارت إليه لولا تلك العوامل، لهذا كان تمردها مختلفا ومبدعا واستثنائيا في المجال الشعري، وكذلك غيرها ممن لم أعرف عنهن، ولكن هذا التمرد الجميل، صار منسيا، كغيره من التمردات، وآل حاضره الآنذاكيّ إلى غياب منسيّ في ذاكرة يباس آنيّة..
لماذا؟

خاتمة
ما أردنا قوله هنا، هو أن الفنون الشعبية العمانية، حظيت بذاكرة شغلتها بعض الشاعرات الرياديات، ذوات الحسّ المختلف، والمسار الصعب، والقاموس العصيّ على الاستكناه، لربما آن أوان البحث عنهن، وإبداء بعض التكريم لتاريخهن ونصوصهن.

عبدالله الشعيبي