وحيدا وسط الأحراش الملتفة تزحف على بطنك، بهدوء وتؤدة، بدوت كتمساح خرج في نوبته الليلية بحثا عن طريدة، يلفك إعياء شديد، تتنفس بصعوبة بالغة، تقاوم طنين الحشرات المزعج، صرير يؤذي أذنيك، يوشك أن يودي بك إلى الجنون، تنهض متحاملا على نفسك، يدك الحذرة على زناد سلاحك الآلي، تمرغ الحذاء الجلدي الثقيل في حفر رطبة موبوءة بجحافل البعوض والعث، غاصت الأوحال الطينية تحت قساوة الحذاء كلما رفعت قدما وهويت بالأخرى.
الجو حار وخانق، شديد الرطوبة، وأنت تغالب سطوة الإرهاق الزاحف على عينيك، تفرك جفونك بظاهر كفك التي انحسر عنها القفاز الممزق، تلتمس طريقك رويدا رويدا في ظلام حالك بين نباتات وأعشاب حرشية ملتفة متشباكة نمت على بحيرات آسنة عفنة، بينما نقيق الضفادع يعلن عن استواء الغسق.
تتهادى إلى مسامعك أصوات غامضة من بعيد، بدت كصرخات وحوش ضارية، تفكر قليلا ماذا لو كانت استغاثات الأسارى المعذبين من رجال سريتك العسكرية، راح معظمهم ضحية الكمين المفاجئ، سقطوا كالذباب، القليل منهم سيق أسيرا إلى حتفه، ونجوت أنت، أنت فقط بفضل الأحراش، أو ربما كما تظن الآن بفضل أمك تلك المرأة الطيبة التي ترتاد الكنيسة في جميع الآحاد، فتوقد الشموع في المذبح، وتصلي من أجلك، لابد وأنها تنتظرك بشوق كبير في بيتكم الريفي الجميل، وقد أعدت كعكا ساخنا لذيذا كدفء حضنها الحنون، وجلست تتناوله قرب الموقد، مع حفيدتها الصغيرة ابنتك، هناك بعيدا بعيدا في الشمال حيث بلاد الثلوج والمداخن وأشجار الصفصاف والأرز والسنديان الضخمة، هاجت بك الذكريات، فانسلت دموعك حارة، حارقة، تحاول حبس المشاعر في أعماقك، لكنها تفيض بكاء في صوت مخنوق، سرعان ما يستحيل غضبا من وضعك المأساوي: (اللعنة على من قذف بي غازيا إلى أرض بعيدة عن الوطن).
نعيق بومة هائمة أعاد الجندي إلى واقعه، سعى إلى السيطرة على نفسه، كيلا يتسرب إليها اليأس، حاول التفكير بإيجابية، قد ينجو من المحنة مع شيء من الحظ، قد يتلقفه جنود فرقة الإنقاذ الذين يبحثون عن سريته حتما الآن، قد يصل إلى وجهة فيها أصدقاء، ربما يهتدي لطريقة ما تصل به إلى بر النجاة، (علي ألا أفقد الأمل) قالها لنفسه وهو يبث فيها حماسا مفتعلا، أدار رأسه في كل اتجاه فلم يبصر سوى الدغل، ومستنقع الماء الموحل ينكشف جزء منه للعيان كلما عبر ضوء القمر المتواري خلف الغيوم المتلاحقة، قيّم وضعه الحساس، ذراعه اليسرى مصابة بشكل بالغ، ونزيفها يتواصل رغم قيامه بتضميد الموضع المصاب، منهك القوى، فاقد الاتجاه، محاط بأرض الأعداء، محروم من النوم والطعام والشراب، أشبه بجثة تتنفس لا شيء فيها يمت إلى الحياة سوى دقات قلبه وذكريات عزيزة، وجذوة من أمل.
أرخى الليل سدوله فعم نقيق الضفادع المكان، كسمفونية نشاز، مع صرير الحشرات ونعيق البوم وعواء الوحوش تأتي به الريح من مكان بعيد، الدغل الحرشي يحتويه الآن والمستنقع الطيني المميت يسد بينه وبين بلوغ المجهول الذي قد يخرجه من هذا المصير البائس، المستنقع الآسن يمتد أمام ناظريه يدعوه للمبارزة كمصارع شجاع يواجه وحشا كاسرا في ميدان روماني، يعرف الجندي بخبرته خطورة ذلك المستنقع الموحل، شاهد العديد من الرجال الأقوياء يعلقون في شركه، ثم كيف يبتلعهم بعدها في دقائق ليغدوا أثرا بعد عين، تغور أرجلهم في الطين وسرعان ما يغطسون إلى الأعماق رغما عنهم ودون أن يتمكن أحد من نجدتهم، لكن ما من سبيل أمامه سوى المخاطرة، يدرك أنه يقامر بحياته، فمن أين له أن يعرف إن كان المستنقع ضحلا قابلا للاجتياز أو قبرا طينيا موحلا ينتظر عابريه، (سأعبر المستنقع، فهناك على الضفة الأخرى ينتظرني الخلاص) قال لنفسه، وهو يتأمل ما بدا قبسا من نور في العتمة المقابلة، هناك قد يجد الزاد والعلاج لجرحه المتعفن، ربما كانوا جنودا من فرقة الإنقاذ التي أتت لنجدتهم، أو بعض القرويين الطيبين ممن لا شأن لهم بالحرب والقتال، سيختبئ في كنفهم إلى أن يجد طريقة للاتصال ببلاده، أو قد ..

اتخذ القرار، لدغات الحشرات تتالت على وجهه وجسده وذراع الجريحة، لم يعد يقوى على إبعادها، أو ربما لم تعد لديه الرغبة في ذلك، لحظة تفكير عميقة أخذته في أعماقها، تذكر أمه، التي ربته وحيدا دون أب، زوجته الراحلة في حادث سيارة، ابنته اليتيمة، رفاقه، ذكريات طفولته الغابرة، ضحكاته تشق هدوء ريفهم القصي، السنديانه العجوز، بيته الخشبي الطفولي، مغامراته الكشفية، ثم تلك النار المتقدة هناك والفاصلة بين الموت والحياة بين اليأس والرجاء، رغم بعدها أخذت تمده بدفء غريب، بحرارة أسطورية سرت إلى جسده الخامل، شعر بقشعريرة عجيبة تمتد في عروقه، تسري في أوردته، فيرهف لها شعوره، نادته ابنته من الضفة الأخرى مادة ذراعيها: (أبي أبي، عد إلينا ننتظرك انا وجدتي) فابتسم لها تقدم نحو المستنقع بخطى وئيدة لكن واثقة من نفسها لتعبر سكة الموت، مهما كانت المخاطر، لن يموت في موضعه هنا جريحا جائعا مجنونا كحيوان شريد، أو لقمة سائغة لأفعى أناكوندا عملاقة، يفضل أن يقامر في لعبة الموت عسى أن توهب له الحياة، سيعبر المستنقع من زاوية ضيقة، غاص حذاؤه في الوحل، وتعفر الكاكي بالطين، فقفزت ضفدع صفراء سامة هربا منه، وتطايرت عشرات الكائنات الدقيقة في كل اتجاه، لم يعبأ بها الجندي وواصل تقدمه، منتشلا جسده وهو يغرس قدما في الطين ويقتلع أخرى في مشقة بالغة حذر الغوص، ووميض النار يجذبه جذب الفراش، ويمده بالقوة كيلا يغرق، استمر في التقدم رغم جراحه، والإرهاق الذي يكابده، وقسوة الجروح وفكرة الغوص المميتة في الأوحال، وصل مستوى المستنقع إلى وسطه والجندي يجاهد للنجاة والوصول إلى الضفة الأخرى، أمسك بغصن متدل، تشبث به، كغريق يتعلق بقشة أو طوق نجاة، كان يدرك تماما أن انكسار الغصن قد يعني هلاكه المحتم، صلوات أمه رفرفت فوق رأسه، جذب نفسه جذبة أخيرة، نفسه الموشكة على الهلاك، فألفى نفسه في الضفة الأخرى، تنفس الصعداء، بكى من شدة الفرح، تناسى جروحه، لم يصدق أنه نجا وبأعجوبة من شرك حفر الطين، من المستنقع الموحش، من أرض الضياع، وعندما استرد شيئا من عافيته، بدأ الزحف من جديد، وكله تصميم وإرادة كي يعبر الأحراش وللمرة الأخيرة في حياته.

******
في تقرير القوات المسلحة عن مهمة جنود السرية (13) المقاتلة في غابات الأمازون والتي أرسلت لتصفية قاعدة لتجارة المخدرات في إحدى جمهوريات الموز بأميركا الجنوبية سجل التوثيق التالي:
الملازم وليم روبرت فوكس من سلاح المهام الخاصة الحامل للرقم العسكري المتسلسل 15003 فقد أثره مع جنود سريته أثناء اشتراكه في تنفيذ عملية خاصة في الغابات المطيرة شرقي نهر الأمازون بتاريخ 12/ 4/ 1973م ، وعقب تحسن الظروف الأمنية إثر انتهاء القتال وحدوث التحولات السياسية في المنطقة أجريت وبمساعدة كاملة من السلطات المحلية عمليات بحث جديدة ومكثفة استغرقت ثلاثة أشهر كان من نتائجها العثور على بقايا من جثته وهيكله العظمي مطمورا في مستنقع طيني وبإجراء فحوص الـ (DNA) تم التأكد من هويته، وأثبتت تحقيقات الطب الشرعي تعرضه لهجوم قاتل بسلاح بدائي أدى إلى تهشم تام في عظام الجمجمة مسبّبا الوفاة.
أغلق الملف بتقييد الفعل ضد مجهول.
تمت

سمير العريمي