[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
عجيب أمر هذه الأمة الإسلامية التي كانت أمة الخلافة الراشدة كيف تصبح على هذه الحال من العجز والغبن وهي ترى يوميا على صفحات التواصل الاجتماعي أجساد أطفال ملائكة ممزقة ودامية في أحضان أم أو أب يرفعان أياديهما للسماء ويناديان أين الأمة؟ في حين يتجند الرأي العام العربي للتنديد بالصنيعة لا بالصانع، ويتحول التنديد بالإرهاب إلى تنديد بالإسلام!
أدهشتني هذا الأسبوع ظاهرة تونسية وأظنها عربية تتمثل في التناقض الصارخ بين دموية المأساة الغزية العربية بضحاياها الأطفال وبين لهو النخب السياسية وتخبطها في البحث عن الكراسي، وهذا التناقض يفضح حال العرب النفسية ويعري الواقع العربي؛ لأن الأمة أصيبت بفقدان المناعة، وأعتقد أن خلايا المخ أتلفت في (الزهايمر) قومي جماعي جعلت النخب المتصارعة على سلطة وهمية أشبه بالمهرجين الذين يريدون أن يضحكوا زبائن السرك القومي العربي المنتصب على قمة بركان! وشاهدت صورة رئيسنا المؤقت في المكتب البيضاوي يتوسط عملاقين (أوباما وحرمه) وهو يضحك فخورا مزهوا، بينما الرئيس الأميركي يؤيد قصف الأبرياء الغزاويين وسمعت بترشح وزير سابق للعدل للرئاسة بعد ما كان طيلة 23 سنة يطبخ لنا المحاكمات الكيدية ويشتت أولادنا ويخرب بيوتنا! كما شاهدت تعليقات عربية غبية تصفق لقصف في العراق من قبل الطائرات الأميركية وقريبا الفرنسية في عودة قوية للاستعمار الصليبي المباشر الذي إذا ما تدخل هذه المرة في الشرق الإسلامي لن يغادره بسهولة.......وبطلب من العرب أنفسهم! مثلما فعل ملوك الطوائف حين استنجدوا بالملك القشتالي (فرديناندو) تمهيدا لخسران الأندلس إلى الأبد.
كنا في الستينات ونحن طلبة في باريس نذهب لمسرح الجيب لنسهر في مسرحية الكراسي للكاتب العبثي (يوجين يونسكو)، وكنا نضحك لكننا نفكر كشباب وكعرب تمر أوطاننا بمحن عسيرة في ذلك الزمن، فنعطي لفصول المسرحية أبعادا سياسية وحضارية، ونربط في أذهاننا وفي نقاشاتنا بين شخوص النص وبين زعمائنا (بورقيبة وبن بلة وعبدالناصر وثورات اليمن بالمشير السلال والعراق بعبدالكريم قاسم ثم بالمنقلبين عليه عبدالرحمن عارف وشقيقه وسوريا بأمين الحافظ ثم المنقلب عليه صلاح جديد والسعودية بالملك الصالح فيصل بن عبدالعزيز ونقارن بينهم وبين أبطالنا المثاليين أمثال (شي جيفارا) و(هو شي منه) و(باتريس لوممبا) قاهري الاستعمار والإمبريالية، وكأغلب شباب الدنيا كنا نحلم بتغيير العالم ونقرأ كتب سمير أمين وريجيس دوبريه وماركيز وعبدالله القصيمي وعبدالله العروي لنتشبع بالروح الثورية التي تنضح بها كتاباتهم وبتلك الروح شاركنا في ثورة شباب فرنسا في مايو 1968م، وهربنا لمحطات المترو خوفا من هراوات البوليس بعيوننا المتورمة المثخنة بالغاز المسيل للدموع!
مرت الحياة ودار الفلك على أمم الدنيا وغادرنا باريس بعد نيل بعض الشهادات، لكننا نحن العرب ظللنا لسنوات نتألم ولم تجف دموعنا حتى بعد أن هدأت القنابل المسيلة للدموع؛ لأن أمم العالم كلها اجتمعت في تكتلات عملاقة أكسبتها القوة والمناعة، وظل المسلمون هم الضحايا في مسرحية الكراسي بلا (يوجين يونسكو!). هذه المسرحية تتواصل في وطني الأصغر تونس وفي وطني الأوسط العالم العربي وفي وطني الأكبر أمة الإسلام بأشكال مختلفة لكن في سيناريو موحد مبرمج منذ عقود. وقالها لنا المفكر اليهودي (صامويل هنتنجتن) في دراسته الشهيرة المنشورة في مجلة (فورين بوليسي) سنة 1992م ثم في كتابه بنفس العنوان الذي هز الأفكار وغير من تحليل المستقبل ورسم ملامح جيوستراتيجيا جديدة تحت شعار (صراع الحضارات) أو الأصح (صدام الحضارات) CLASH OF CIVILISATIONS والباحث كان أمينا وصادقا حين أعلن أن الصدامات التي ستحدث في القرن الحادي والعشرين ستكون صراعات بين الحضارات ولن تكون حروبا بين دول أو جيوش كما كان الحال في القرن العشرين وما قبله. ولتدرك أيها القارئ الفاضل أهمية وخطر هذه النظرية يكفي أن تعلم أنها كانت المنطلق النظري والعسكري لحروب الشرق الأوسط والخليج العربي منذ احتلال صدام حسين للكويت في 2 أغسطس 1990م، وكل مسلسل قصف أفغانستان منذ 11 سبتمبر 2001 ثم غزو العراق وبداية الحضور العسكري في كل دول الشرق الأوسط، ولم يدلس صامويل هنتنجتن الحقائق الجيوستراتيجية كما قرأها بعيون المؤرخ، فهو الذي قال لنا إن العالم في الهزيع الأخير من القرن العشرين ينقسم إلى حضارات كبرى تتفق أو تختلف أصولها ونظرتها للعالم وتتوافق أو تتضارب مصالحها الحيوية ولكل منها تصور فلسفي وأخلاقي للإنسان وللعلاقات بين الأفراد ولكل منها قراءة لتركيبة المجتمعات ولمنزلة الأديان في تنظيم حياة البشر. وهو يقسم الحضارات الكبرى إلى أعراق وأديان أي إلى هويات عريقة أصبحت هي الملجأ الروحي والفكري للناس بعد سقوط الأيديولوجيات وانكشاف خديعة الاستخراب (المسمى خطأ بالاستعمار) حين فضح العالم الفرنسي (كلود ليفي ستراوس) أكذوبة الحضارات العليا والحضارات السفلى التي بررت احتلال بلاد المسلمين وبلاد الهند من قبل أمم بيضاء صليبية تعتقد أنها أرقى! وأن رسالتها هي تمديننا وإلحاقنا بمنظومة قيمهم، ومع الأسف فإن نخب العرب التي قاومت الاستعمار وحررت بلدانها وأسست دولها المستقلة هي نفسها النخب التي غسل الصليبيون المستعمرون عقولهم ورسكلوها لإنتاج الاستعباد الثقافي، فخرج المستعمر الصليبي من الباب ليعود من الشباك في شكل المعلم المستبد الذي يملي علينا نحن المسلمين كيف نتشبه به ونتكلم لغته ونلبس لباسه ونغني موسيقاه، وندرس في جامعاته ونقف طوابير مهينة أمام قنصليات دوله لنحصل على تأشيرة زيارة باريس ولندن وواشنطن للسياحة أو للدراسة أو للعلاج، بينما المواطن الأوروبي والأميركي يدخل من مطاراتنا مرفوع الرأس بمجرد بطاقة هوية حتى منتهية الصلاحية! ثم علمونا كيف نسكت ونعزي ونعلن الحداد حين يقتل الصهاينة ألفين من الأبرياء المدنيين الفلسطينيين (مسلم ومسيحي) من بينهم ألف طفل في ظرف ثلاثة أسابيع بإعانة دبلوماسيات وتسليحات وتبريرات أميركية وأوروبية و...أحيانا عربية!
عجيب أمر هذه الأمة الإسلامية التي كانت أمة الخلافة الراشدة كيف تصبح على هذه الحال من العجز والغبن وهي ترى يوميا على صفحات التواصل الاجتماعي أجساد أطفال ملائكة ممزقة ودامية في أحضان أم أو أب يرفعان أياديهما للسماء ويناديان أين الأمة؟ في حين يتجند الرأي العام العربي للتنديد بالصنيعة لا بالصانع، ويتحول التنديد بالإرهاب إلى تنديد بالإسلام!
في بلادي يتخبط حكامنا المؤقتون أمام تفاقم ظاهرة العنف وأمام تدفق اللاجئين من الأشقاء الليبيين وهم يفرون من وطن بلا دولة وبلا شرعية منذ 1969م يوم الفاتح من سبتمبر العظيم حين تغير اسم ليبيا وأصبح الجماهيرية العظمى حين اعتقد العقيد أن بريطانيا تسمي نفسها العظمى فأراد أن يسمي ليبيا (العظمى) وكنت يوما على مائدة الغداء في قصر قرطاج بدعوة من الزعيم بورقيبة فضحك الرئيس التونسي من (العظمى) قائلا لنا إن بريطانيا تسمى العظمى وهي ترجمة لنعت great للتفريق بينها وبين مقاطعة بريطانية الفرنسية! وليس للتعظيم. هذه النوادر أستحضرها لأنها مستمرة بأشكال مختلفة، وأرى هذه الأيام قائمة بصور وأسماء 30 تونسيا مرشحين لرئاسة الجمهورية في مسرحية الكراسي وأعترف لكم أني لا أعرف منهم 27 لأن لدي علاقات قديمة مع ثلاثة منهم فقط فأشفق على حال الناخبين المساكين كيف سيختارون من لا يعرفون عنهم سوى صورة في جريدة!