قصيدة الفنون .. خيار الشروحات وجدلية اللفظ

لطالما شكلت القصيدة ركنا أساسيا في مختلف الفنون الشعبية العمانية، وبخاصة في البيئة العمانية القديمة، وهذه الركنية هي الجوهر الذي جعل ثنائية (المعنى والمغنى) تحظى بأولوية قصوى في المكان العماني، بغض النظر عن أسماء أو أنواع فنونه المغنّاة، ولذلك تعاطى معها بمنظور خاص، منظوره الذي من خلاله شغل مخيلته بما تحتويه القصيدة من دلالات ومعان ظاهرة وباطنة، وما توحي به مساحات التأمل في مرايا تعكسها الألفاظ التي تبني عمود القصيدة الوزني والفكري والجمالي.
من الجيد التعامل مع قصيدة الفنون الشعبية باهتمام يتجاوز توثيقها وتدوينها، على الرغم من الملاحظات التي تشوب التوثيق والتدوين للنصوص، ولكننا نعني هنا - بتجاوز الملاحظات- أن نصوص الفنون الشعبية تحتاج عناية خاصة، على الرغم من التقادم الزمني الذي شابها، وعلى الرغم من الزيادات التي طالتها على مر العقود، ولكنها قابلة لأن تكون جزءا من حقل معرفي نقدي، تتسق مرجعيته مع الفنون الشعبية المغنّاة.
سؤال أهمية تداولها في إنصاف هذا المنجز مشروع، ولكنه - بالنتيجة - يبقى خارج الفعل النقدي، وربما يتم تداول بعض المحفوظات منه بالخطأ البيّن في النطق، ولذلك فإن معالجته أمر شائك، والتعاطي معه يحتاج مران شغف به قبل كل شيء، ومناخ تفاعل جمالي جُوّانيّ معه، وهو ما نأمل أن نراه في مراحل لاحقة.

صوت القصيدة
للقصيدة صوت واحد، بدأ مع (الشَّلّة)، واستمر مع إيقاع (الكاسر والرحماني) وغيرهما ، في لحظة الميلاد الأولى، قبل عقود مضت، كان ذلك الصوت هو صرخة الولادة الحقيقية للنص، وتباهيه في (الرمسات) على ألسنة (لمْهُوْيِين)، ومن بعد تلك الليلة، بدأ الصدى، بل الأصداء، تتناقل وتتعدد، تنساب وتحظى بهوياتها الصوتية المهتمة والمُحِبة والشغوفة، لتنتقل عبر الأماكن والجغرافيات، بل وتعبر الحدود، ماضية أو آتية من أماكن المهجر الطوعي للأعمال المختلفة بسبب لقمة العيش.
ما نفهمه هو أن قصيدة الفنون كانت لها رسائلها الصريحة والضمنية، وكان لها أسباب قول ومناسبات تعبير، وكان لها صيغة بحسب الفن الذي تنتمي إليه، ولعل ذلك كله لم يحظ بأن يخرج صوت القصيدة - في زمننا- كما حظي بتلك اللفتات المهتمة في زمنه، ومن هذه البوابة كان عبوره نحو زمنه هو ولوج نحو الذائقة المباشرة، أي أن صوت القصيدة يدعو اللاحقين إلى إكساب كل نص مساحة تأثيرية تنتمي إلى حقيقته، حقيقة رسالته، سواء كانت عاطفية أو عتبية أو تسجيل موقف أو إثبات ذات أو عروج نحو عمق إنساني نبيل؛ فأن يتم تداوله طربيا خارج منظومة الصوت العميق في النصوص، نجد ذلك تغييبا ربما غير مقصود لما تشي به تلك النصوص، وتقصيرا في التعاطي مع نقده، والالتفات إلى مضمره الدلالي، الذي هو بصمة النصوص عامة.

سطحية الشروحات
مرت قصيدة الفنون بمراحل مختلفة في الشروحات، وتلك المراحل اختلفت في ضوابطها، باعتبار أن كل مرحلة - إذا اعتبرناها بالصيغة العقدية (عقد عشري)- لها صيغتها المرتبطة بزمنها وتحولاته، فالشروحات قبل خمسين عاما تختلف عن الآن، والشروحات قبل 100 عام تختلف عن الـ 50 التي بعدها، والسبب يعود إلى ما تصنعه التحولات في الفرد والبيئة المكانية، والعلاقة بين تجدد القواميس اللفظية المستخدمة في كل مرحلة، فضلا عن التجدد بممارساته الفردية لدى الشعراء والشاعرات في تضمينهم - عبر مفهوم الصنعة البلاغية - تورية المعنى خلف الصورة المخيالية المستوحاة من بناء الفكرة المُراد التعبير عنها.
قبل 50 عاما - على سبيل المثال- كانت الشروحات المرتبطة بالنصوص ذات سمة تكاملية مع لفظ النص، وإن توارت الدلالة بحجاب التورية والغموض، لذلك كانت جمالية المعنى مستكنهة من وراء إيحاء اللفظ، والربط المباشر بحياة الشاعر، استنادا إلى طبيعة شخصيته، وما يتم تداوله عنه؛ في حين أن القرائن اللفظية الموازية لما يحويه تركيب القصيدة الواحدة، كان يسهل التعاطي معه، في ظل إيقاع شعوري متناغم مع النص والناصّ على حد سواء.
في المراحل اللاحقة على زمن المواكبة صدور النص، أي قصيدة الفنون، اختلف القاموس، وربما عبرت الأجيال نحو مناخات جديدة، وربما استمرأت الغياب المكاني سنين طوال، مما يجعل الصلة القاموسية اللفظية في حالة من التغير، مع المحافظة على الجذر اللهجوي، ولذلك كان الغوص في الشروحات المعنوية للنصوص أقل انغماسا في النص، وغطى (المغنى) على (المعنى)، وهو ما لم نعترف به، وبدت تلك الصلة منعكسة على واقعنا المعاصر في التعاطي الشروحي مع نصوص الفنون الشعبية المغناة.

عين ولسان
نص إبداعي، هذا هو حال قصيدة الفنون، بخواصها المتصلة باللهجة والفن الذين تنتمي إليهما، ولذلك تنشأ بين عين ولسان، عين ترى المشهد، تختمر فكرته في الذهن، ثم تمر على أداة مخيالية لرسمها وتقريبها إلى المستوى اللغوي المرغوب فيه، ومن ثم تخرج - بتلقائيتها وحضور بديهة قائلها - نحو المكان المحيط، أحيانا تكون مُرسَلة ببساطة وتلقائية، لتتلقاها الأسماع وتنقلها عبر (الشلة)، تمهيدا لذيوعها، ربما يكون المشهد من الذاكرة، أو موقفا ما، أو فكرة مُلحّة بشكل متكرر على صاحبها.
لكن هناك لسان آخر، يقوم بدور الرواية والنقل، من خلال السماع المباشر أو المنقول، وبالتالي يتمسك المستمع إلى الرواية الوسيطة بمسموع الناقل، ويعتمدها على أنها منقولة من المصدر، وعندما تتعدد اللسانات، تتعدد المرجعيات، وكل لاحق يعتبرها كما هي من سابقه، ما لم يكن هناك رواية يبين فيها اختلاف في الزيادة أو النقصان أو التقديم او التأخير أو تحريف اللفظ عما كان عليه في أصله الأول، الذي هو متعدد وفقا لما وصفنا به التراتبية في النقل عبر مراحل الرواية.
نصوص أخرى يتم كتابتها من المصدر، في دفاتر صغيرة، أو يتم إرسالها عبر (خطوط) رسائل بريدية يتم تناقلها يدويا عبر (طارش) بعيد أو قريب آت من سفر أو (شومة) ، خصوصا إذا كان الشاعر لديه حظ من تعلم القراءة والكتابة، وفقا لما كان سائدا لدى الكتاتيب.
هذا النص (المرسول) يفترض أن يكون وثيقة مهمة، تنتمي إلى المدونات، إذ يمكن - من خلالها - معرفة : تاريخ الكتابة، نوع خط الشاعر/الشاعرة، طريقة رسم النصوص بحسب الفن الذي تنتمي إليه، أو على الأقل يمكن القول إن هذه افتراضات سريعة حول ما تحتمله الدفاتر الشعرية التي تكون بحوزة الشعراء أو مدوّني قصائدهم وجامعيها.

كتابة الأذن
هل يمكن اعتبار الأذن، بصفتها أداة حسية للسمع، بمثابة كتابة؟
من واقع كون قصيدة الفنون الشعبية العمانية القديمة سماعية بامتياز، تصبح الأذن المرشحة الأولى لتكون كاتبة تلك النصوص، لأن السماع يفضي إلى الرواية، وإذا غفل السماع قليلا فسوف يصبح النقل غير أمين، أي أن الكتابة السماعية سيكون فيها خلل ما، ربما سيتم سده لفظا، ولكن من حيث متانة البناء سيكون هناك خلل ما، ولذلك سيكون الكشف عنه واضحا، هذا على مستوى المرحلة السماعية الأولى؛ أما بعد عقود من الزمن، فيصبح من الصعب كشف ذلك، باستثناء عملية سبر واعية لبناء النص، لفظا وجرسا ومعنى ، وصلة اللفظ بمرحلته أو مراحل لاحقة.

خاتمة
ما وددنا قوله هنا، هو أن قصيدة الفنون الشعبية العمانية مهمة من زوايا مختلفة، ولكن التعاطي معها لا نظن أنه دخل مرحلة القراءة النقدية الحصيفة، التي يمكنها الإيغال في عوالم نصوص شكلت حضورا جذريا في وجدان المكان العماني القديم.

عبدالله الشعيبي