كان الطريق من البحر الميت الى مدينة السلط من أجمل الطرق التي كنت قد رأيتها في رحلتنا هذه، كان يعبر صعودا خلال سلسلة من الجبال الخضراء ونزولا بين الفجاج والأودية المشبعة خصبا وخضرة، وكانت جداول الماء تلاحقنا كلما ولجنا أكثر في الأودية تجاه المدينة، وجميع هذه المزارع المحيطة مثمرة بفواكه البرتقال والرمان والمشمش والتين أو مسطحة بالخضروات كالطماطم والملفوف والخيار، ولا غرابة في ذلك، لا سيما إن علمنا أن الإنتاج الزراعي يشكل تقريبا ٢٥ ٪ من الناتج المحلي في الأردن، مع هذا أخبرنا هشام السائق المصاحب لنا في رحلتنا أن الإنتاج الزراعي انخفض في السنوات الأخيرة بسبب قلة الأمطار والمياه، وكلامه هذا أصابنا بشعور من التعجب والاستغراب فما نراه من وفرة المياه وكثرة الشلالات والعيون الجارية في المزارع الخضراء، كل ذلك يدل على خلاف ما يعتقده، حتى هذا الشارع الذي نجري فيه نحو مدينة السلط محاط أيضا بالجداول المائية وأغصان أشجار العنب والرمان، كما أن في الأردن اضافة الى كل هذه العيون ثلاثة أنهار وستة أودية جارية، إنها ببساطة بقعة زراعية خصبة وخضراء بالطبيعة، ليس هذا وحسب بل فيها من الآثار التاريخية والحضارية القديمة وفيها من المعالم الاثرية ما لا يوجد في كثير من البدان المعروفة، والغريب أن يكون نصيبها من السياحة ضئيلا وفي تناقص مستمر، تصوروا أن مدينة السلط هذه التي يجهلها الكثيرون من أبناء الوطن العربي تحتوي على أكثر من ٧٠٠ مبنى تراثي وأكثر من ٥٠ موقعا أثريا مكتشفا، أما غير المكتشف فالله أعلم به، ولا أدري كم عمر هذه المدينة ولكنها قديمة جدا وفيها تنوع ثقافي وديني أيضا، هذا ما لاحظته من كثرة الكنائس فيها، وتقع مدينة السلط بالضبط في الطريق المؤدي من مدينة عمّان الى مدينة القدس على سفح جبل البلقاء المطل على فلسطين، يقول لنا هشام أننا لو أطعناه وتوقفنا عند ذلك التل لأمكننا أن نرى فلسطين والمسجد الاقصى بكل وضوح، لكننا لم نطعه بسبب ضيق الوقت واكتفينا بالتقاط الصور في وسط المدينة حيث البيوت الحجرية متراصة متكئة بعضها على بعض بشكل تصاعدي نحو القمة، على كل المدينة هي عبارة عن واد محاط بهذه الجبال الخضراء العالية، وفي المدينة قلعة شهيرة وغريبة بناها القائد اليوناني سالتوس أيام حكم الاكسندر المقدوني ويقال أن أسم سلط مأخوذ من اسم سالتوس هذا، ومكمن غرابة هذه القلعة يرجع في أنها غير موجودة فعليا، فإن قصدت لزيارتها فلن ترى الا حطاما، والسبب في ذلك يعود الى الحروب التي توالت على المدينة عبر التاريخ نظرا لأهمية موقعها المطل على نهر الاردن والمسيطر على الطريق المؤدي الى القدس، وفي القلعة أيضا معبد للإله زيوس، الاله زيوس هو أحد آلهة اليونان القديمة، وعندما هاجم المغول الدولة الاسلامية واحتلوا هذه المدينة قاموا بتدمير قلعتها، وبعد هزيمة المغول على يد المسلمين قام القائد المسلم بيبرس بإعادة بنائها، وفي زمن الدولة العثمانية قام إبراهيم باشا بتدميرها مرة أخرى، ولم أفهم سبب تدميره للقلعة. وللمتدينين يوجد كثير من معابد الانبياء في هذه المدينة وقبورهم، وفيها الكثير من المساجد والكنائس، والكنيسة والمسجد يصليان جنبا الى جنب، حتى أننا عندما دخلنا من المدينة تفاجأنا بأن الطرق مغلقة والناس تهبط من سيارتها وتمشي باتجاه كنيسة كبيرة تتوسط المدينة، وهناك من يدخل في الكنيسة وهناك من يقف خارجها، وحين سألناهم قالوا أن هذه جنازة لرجل مسيحي، وأن أهله وأقاربه قد حضروا للصلاة عليه وتشييع الجنازة، أما أقاربه وأصدقاؤه المسلمون فينتظرون خارج الكنيسة ريثما يتم تعميده والصلاة عليه. وتعجبنا من هذه اللحمة الإنسانية بين الأردنيين بالرغم من اختلاف دياناتهم. إن اختلاف الدين أو المذهب أو الفكر لا يشكل هاجسا للأردنيين في هذه المدينة، حتى عندما حاول جمال أن يسأل هشام عن أسباب هذا التسامح الموجود في هذه المدينة بالذات، لم يستطع هشام أن يجيب عن هذا التساؤلات، لأنه لم يفهمها، ربما كان مصطلح تسامح ذاته بالنسبة إليه جديدا، كانت التساؤلات بالنسبة له كمن يتساءل مستغربا عن سبب التسامح بين الأشقاء في البيت الواحد معللا ذلك بوجود اختلافات في الطول والعمر والجنس والتفكير، تأملوا فقط الصورة.
وبعد أن أنهينا رحلتنا في مدينة السلط التاريخية عدنا مباشرة الى عمّان، حيث تناولنا وجبة الغداء في مطعم يسمى بمطعم عالية وهو أحد المطاعم الكبيرة التي اختارها لنا هشام، زاعما بأن هذا المطعم هو من بين المطاعم الافضل والأكثر شعبية في الأردن، أما جمال فكان رأيه أن تناول الغداء في مدينة السلط لأنه أحب المدينة وأهل المدينة والغابة الخضراء المحيطة بها، وأحب الشيخ الذي يقوم بخدمة الجامع والذي حدثه عن حبه للعمانيين وحبه للمنتخب العماني وسعادته بفوزهم بكأس الخليج، لكن الساعة كانت عصرا والمطاعم مغلقة، لهذا اضطررنا ان نتغدى في هذا المطعم الكبير الذي يشغل بناية كبيرة مكونة من ثلاثة طوابق، في الطابق الأول قاعة كبيرة يعرض فيها أصناف الطعام في صوان موضوعة خلف جدران زجاجية تحيط بالقاعة حيث تطوف بها لتختار ما تشاء من المحاشي والمشويات والمنسفات وغيرها من المأكولات المطبوخة والمشوية، وهناك ركن صغير للجزار حيث تختار أي قطعة تشاء من اللحم فيتم تقطيعها وتبزيرها ثم طهيها أو شيها لك، وهناك جانب آخر للحلويات كالكنافة والبقلاوة والبسبوسة وما ماثلها، ثم تصعد الى احدى الطوابق العلوبة الواسعة لتختار طاولة عند الحائط الزجاجي المطل على شوارع المدينة، والاردنيون عامة يحبون تناول اطعمتهم في مثل المطاعم الكبيرة التي تتيح لهم جوا من متعة اللقاء العائلي، فترى الفتاة الأردنية بكامل جمالها وأناقتها وجاذبيتها تجلس إلى جوار أخيها أو أبيها وأمامها أمها أو أختها، وهم يتسامرون ويقلبون أوجه الحديث بين اخبار المجتمع والسياسة والشؤون العائلية، منصتين الى صوت الموسيقى التي تملأ المكان بهجة وسرورا، وقد يستمر جلوسهم حتى نهاية السهرة، فالمطاعم بالنسبة لهم ليست فقط مكانا لتناول الطعام فحسب كما هو الحال معنا بل هي مكان للقاء والسهر ومواعدة الاصدقاء.
عند عودتنا الى الفندق، طلب جمال من هشام أن يصاحبه في جولته الليلية، بدا لي وكأنهما قد بيتا خططهما من قبل دون علمي، على كل سرني أن هشام سيصحبه في سهرته، بل شعرت بمزيد من الاطمئنان والامن النفسي، على أقل تقدير سوف لن يتمنع هشام عن أخباري غدا عن تفاصيل ما يحدث خارجا في هذه الليالي الباردة.
وعدت الى فراشي متعبا ومرهقا من الرحلة الطويلة، وسعيدا أيضا بهذا اليوم الجميل الذي قضيناه في الطبيعة المتنوعة والآثار القديمة، وأخذت هاتفي لأقرأ الرسائل وأجيب على بعضها، كان الشيخ بدر قد أرسل رسالة صوتية يريدني أن أؤكد له أن الطعام في مطعم أبو جبارة قد أعجبني فكتبت له عن مدى سعادتي الكبيرة باختياره وأنني سوف أتناول فيه الطعام مرة أخرى.
وفي اليوم الثاني صحوت مبكرا كعادتي وخرجت أمشي في الضباب كعادتي والتقيت بالمرأة المسكينة التي التقيتها في اليومين الاخيرين كعادتي، ونقدتها بعض الدنانير ودعت دعاءها المعتاد وقلت لها: آمين.. كعادتي، ما أسرع أن يخلق المرء لنفسه عادات تأسره، أليس كذلك، ولربما كانت حاجة الانسان الى الروتين والاصطفاف في مصفوفة الحياة المتتالية هي أمر فطري وأقرب الى الطبيعة وأهدأ للبال والنفس التي تتوق كلما تقدم بها العمر الى.. إلى الانحلال في السكون الابدي، هذا ان كنت تؤمن بأن الحياة هي عبارة عن حركة وسكون، على كل حال، حين عدت الى الفندق لألتقي بجمال في البهو كما هي العادة لم أجده، ورأيت صديقته الجميلة وكانت تقف أمام الركن نفسه الذي تقف فيه كل يوم بملابسها الرسمية نفسها، الابيض على الاسود، وهي تقف وقفة المدير ممسكة بيديها خلف ظهرها ولا تكف عن إنعاش الجو بابتسامتها الوردية الضاحكة، فاقتربت منها مراعيا إظهار عدم اكتراثي بجمالها وسألتها: (كيفك؟ بخير.. شو اسمك؟. اسمي رشا. .. انتي تشتغلي هنا؟. آه .. تشتغلي ايش... هذا هو شغلي في الاستقبال .. كيف يعني؟ ما أشوفك تشتغلي حاجة، انتي كل يوم واقفة هنا على طول.. لا. أنا أشتغل خدمة العملاء والضيوف، حضرتك بدك تسألني عن حاجة ممكن أخدمك فيها تفضل. .. ايواا. شفتي صاحبي جمال، جمال! مين جمال ؟ جمال صاحبي الشب العماني الي بيحكي معاك كل يوم . .آه بعرفه، لا والله لسه ما نزل.. ).
قالت ذلك وقد أحمّر وجهها لسبب لا أعرفه، ظللت أحدق فيها وأنا متعجب من صفاء وجهها البض وكيف أنه حال فجأة من الأبيض الصافي الى الأحمر. أما فهي فقد فهمت أن إجابتها لم تشبع شغفي وأني أطلب المزيد، فسألتها وقد تنازلت عن شيء من رصانتي:
(كيف ايش رايك فيه؟ يتكلم كثير صح؟ ومضحك؟ )
فضحكت وهي تسرح بعينيها نحو الافق وتزيل شعرات انسدلت على وجهها:
( آه آه هو طيب كثير ومحترم. أنت عماني صح؟ (صح) وهو كمان عماني صح ؟ صح ).

ورحلت دون أن أتيح لها فرصة إكمال الحوار خشية أن يأتي جمال الآن، ويذهب فكره بعيدا.. ، وصعدت رأسا الى غرفته لأوقظه من نومه، وطرقت الباب كثيرا حتى نهض متثاقلا وفتح الباب لي، سألته:
- لماذا أنت نائم حتى الآن؟
- أسف لم أنتبه للساعة؟ (متثائبا) لقد رجعنا متأخرين ليلة البارحة.
طيب ما هذه البقع التي أراها قد ملأت بعضا من وجهك
وأحمّر وجهه وأخذ يغطي جوانبه في ارتباك واستحياء، بينما تركته أنا ماشيا إلى المطعم ..
- أراك في المطعم يا صديقي بعد نصف ساعة، استحم جيدا.
-ماذا تقصد!!
وعند الساعة العاشرة كنا نصعد سيارة هشام منطلقين الى رحلة أخرى نحو جبل عجلون، وعجلون هذه مدينة تقع شمال غرب الأردن، على سفوح الجبال المؤدية الى الشام (سوريا)، ويقال إن سبب تسميتها بعجلون هو نسبة الى راهب عاش فيها سنوات ساحقة قبل الميلاد، ولها اسم آخر هو بجلعاد ويعني الصلابة والرسوخ، ونظرا لأهمية موقعها فقد بنى صلاح الدين الايوبي فيها قلعة كبيرة في أعلى قمة الجبل، وتعرف هذه القلعة هناك بقلعة صلاح الدين، ونحن منطلقون بسيارتنا نحو أعلى قمة هذا الجبل الذي يصل ارتفاعه ١٠٠٠ متر، طبعا قمة الجبل مدببة ولا يوجد عليه شيء غير القلعة وتنسدل عليه غابة كبيرة من الاحراش الخضراء، حتى ان الناظر اليها من بعيد يشعر بهيبة وتقديس لروعتها وقوتها، وعندما وصلنا وجدناها على أقوى وأصلب تحصين فهي محاطة بخندق عميق ولا يمكن دخولها الا عن طريق انزال جسر خشبي ثقيل موثوق بسلاسل كبيرة في بوابة القلعة، أما القلعة من الداخل فهي أكثر رهبة ورعبا، حتى أنك لتشعر أنك عدت إلى أيام الحروب الصليبية بل وستسمع صهيل الخيول في الاسطبلات الرطبة وصياح الفرسان وهدير الجيوش وهي تتساقط من على جدران القلعة والريح تهب عاصفة باردة، وصعدنا الى سطح القلعة فوجدناها كاشفة لجميع التلال والأودية والسهول والقرى التي حولها، يا له من صلاح الدين ويا له من بناء.
بعدها عدنا الى مدينة جرش الاثرية، وهي مدينة قديمة جدا يصل عمرها الى أكثر من ٧٥٠٠ سنة، ولكنها ازدهرت في عصر الرومان الذين بنوها وعمروها وبنوا فيها القصور والاديرة والمعابد والمسارح والحمامات، هي مدينة حجرية متكاملة، يمكنك معاينة أبنيتها التي تشتمل على أفضل الطرق الهندسية وأذكاها في البناء، إنها أعجوبة حقا لا يمكن وصفها ولا يمكنكم تصورها،أسواقها، القاعات الدائرة لحكومتها، محاكمها، ملاعبها، نقوشها الكثيرة والجميلة، أعمدتها الكثيرة الطويلة الممتدة على طول الشارع الحجري الرئيسي، مسارحها وأكثرها شهرة مسرح جرش الذي ما زالت تقام فيه المهرجانات الغنائية، ومعبدها الكبير الذي يقع في أعلى مكان في المدينة وحوله أعمدة ضخمة وعالية الارتفاع التي بنيت لتدور حول نفسها مع حركة الهواء لتقيس سرعة الرياح، نظام الصوت في بعض الادرية الذي يسمح لصوت الواقف موقف الكاهن بارتفاعه وتردده حتى يملأ القاعة كلها، كل ذلك لا يمكن استيعابه جيدا وسبر جماله وروعته الا بالذهاب الى هناك والمشي في تلك الشوارع كرجل روماني اروستقراطي مهذب. والحق أن مدينة جرش هي أكبر مدينة رومانية ما زالت محافظة على بنائها وهيئتها خارج إيطاليا.
والغريب أن العرب لا يهتمون بزيارة هذه المدينة الأثرية فأغلب السياح هم من الأوروبيين، ربما العربي الوحيد الذي تجول في المدينة طولا وعرضا هو جمال، أما أنا وهشام فلم نر جدوى من التجول بين الأطلال البالية وبقينا نحتسي قهوة العميد الشهية عند بوابة المدينة، كانت فعلا قهوة لذيذة وقوية.. . وحين حل المساء عدنا الى الفندق على أمل أن نلتقي برامي الذي وبعد إلحاح شديد منه أجبنا دعوته الى تناول وجبة المنسف بمنزله الذي رأينا فيه العجب، وللحديث بقية أخيرة.

جمال النوفلي