لست هنا في معرض توصيف أكاديمي لمفهوم التراث. ولست في موضع لتعريف الثقافة، ولا للحديث بشكل تقني عن العمارة، وبخاصة العمارة العمانية. ولكني بصدد تبيان لماذا تعتبر العمارة العمانية تراثا ثقافيا؟
من وجهة نظري أن القاعدة الذهبية للولوج إلى هذا التبيان ومن ثم الإجابة على السؤال المطروح آنفا، هي أن أركان هذه القاعدة الذهبية هي ثلاثة. يمثل أحدها الإنسان باعتباره مصدر الحاجات النفعية والرمزية والجمالية. وهو أيضا مصدر الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها التي تولدها الحاجات. كما أن الإنسان هو محرك التفاعل بين هذه الأنشطة المختلفة لتلبية الحاجات المتنوعة والمتعددة سواء كانت للفرد أو للأسرة أو لمجموع الأفراد أو لعموم المجتمع. وبالتالي كان لزاما حضور المكان الذي ينبغي أن تتم فيه الأنشطة وتمارس تفاعلاتها. وهذا المكان ينبغي توفره وإنشاؤه في بيئة صالحة وموقع مناسب. وينبغي تخطيطه ليلائم الأنشطة التي تمارس وتتفاعل في حيزه الفراغي. فكان المنزل للإيواء، والمحكم للعدل، والعيادة للصحة، والسوق للتجارة، والورشة للمهنة، والمصنع للإنتاج الصناعي، والقلعة للدفاع، والفلج للري، والوالي للإدارة المحلية وهكذا..
وعي الإنسان بالمكان والبيئة وبالحاجات والأنشطة المتولدة عنها تفاعل كيميائيا فنتج عنه ثقافة صارت هي فيما بعد آليات التفكير والتخطيط والتنفيذ والمعرفة. وفي ضوء ذلك ظل الزمان يمارس دوره باعتباره الإطار المرحلي الذي كانت تتدرج فيه هذه التفاعلات والممارسات، وعملياتها الإنشائية. وظل الزمان راصدا لها. تكون عن رصده شهود تاريخي عليها في سياقات المعتقدات والسياسة والإدارة، فترسخت في المجتمع، وتمظهرت في شؤونه، وارتسمت في مناهجه، فانبثقت علوما وفنونا وفلسفة. وغدت بالتالي هذه المعارف من الفلسفة والعلوم والآداب والفنون وغيرها تراثه. تفصح عن ثقافته، وتشير إلى هويته، وتدل عليه.
ومن هنا تكمن أهمية البناء في البحث الأنثروبولوجي، لأنه يشكل تراثا ثقافيا. يمكن بدراسته التعرف على مضامين الثقافة والحياة والتاريخ لحقبة البناء، واستنطاق عصره وشخوصه ومفرداته الحضارية.
وبذلك يصبح المعمار العماني هو نتاج مجموعة من المعطيات ذات الصفات الخاصة بالمجتمع العماني تراثا وثقافة. تتمايز بيئيا وجغرافيا في خصوصيتها، وتتوحد فكريا وحضارية في المنظومة الكلية. وأصبحت سمة يرجع إليها العماني ويعتز بها.
فهو معمار ثابت في الرؤية والمبدأ والغاية ولأصول. يتطور بحذر، ويتعدل بوعي، ويتغير بروية وأناة. يتداخل مضمونه النظري بالعملي التطبيقي فيمنحه ديمومة التماسك، ويعطيه صيرورة الحياة.
ولذا فإن المعمار العماني ارتكز على مقومات فلسفته المحلية المشبعة بأنوار العقيدة والشرائع، والمملوءة بالتاريخ العماني الطويل الأمد الذي تنتشر أوابده على كامل ربوع الجغرافيا العمانية من بات فبسيا، ومن كبيكب فأم النار، ومن شصر وسمهرم فرأسي الحد والجنز وغيرها من التجمعات الحضارية فوق التراب العماني. كما اتكأت فلسفته أيضا على الخبرة المتراكمة بفعل التواصل والتثاقف مع الآخر، وكذلك بفعل مبادرة التجربة المستمرة، ومثابرة التعلم المستديم للمجتمع العماني، وبحكم المعرفة المتجددة بعلوم البناء وتقنياته، وثقافة تصنيعه.
لقد عبر المعمار العماني عن نفسه بصراحة وأصالة ولم يقطع الصلة الحضارية والثقافية المتداولة في تخطيطه وهيكله وعناصر واجهاته. قفلعة بهلا تمتد في قلعة الرستاق، وهذه تستمر في قلعة نخل التي تتناص في قلعة مطرح.
وبما أن المسكن هو مأوى حياة المجتمع وعلاقاته الاجتماعية، وشاهد على مقوماته الاقتصادية والعقائدية والسياسية فهو يعكس واقع الانسان والمجتمع الحضاري والثقافي. وتعكس فخامة بساطته سمة وبساطة الشخصية العمانية. فالحارات العمانية الطينية، كحارة البلاد في منح، وحارتي اليمن ونزار في إزكي، وحارة البوسعيد في أدم وغيرها، استمرت معطياتها الفكرية والثقافية متواصلة عبر الزمان برغم اختلاف المكان. وظل المسكن العماني التقليدي متصالحا مع الخارج ومنكفئا على خصوصيته ومنشغلا بها في الداخل.
لقد تواشج مسجد الجامع في بهلا مع المسجد في حارة البلاد في منح، ومع المسجد في حارة البو سعيد في أدم من الناحية الفكرية، إذ إنها جميعا على سبيل المثال لا تحتوي بارزة عن جدار القبلة للخارج وإنما محاريبها غائرة في جدار القبلة مزينة ببرواز جصي منقوش، كما أن هذه المساجد معدومة المآذن والقباب، بسيطة التخطيط والتكوين، متقشفة الأثاث مقلدة المسجد الإسلامي في هيئته الأولى، مؤمنة بأن زينة المساجد تشغل المصلين وأن هدف إقامتها هو العبادة. وكذلك كانت مساجد العباد أو ما يطلق عليه في البلاد الإسلامية الأخرى الزوايا والتكايا التي كانت مزينة.
والتساؤل الذي نطرحه في هذا السياق هو: هل يشكل التراث المعماري العماني طرازا محددا بعينه؟ وهل ينتمي هذا الطراز إلى الجغرافيا أو البيئة أو الثقافة؟
إن النظم الاجتماعية والسياسية بخاصة تمارس دورها وسلطتها في صنع طراز معماري يعكس صورتها وواقعها الحضاري اجتماعيا وثقافيا وحياتيا ونظما وأساليب وعادات وتقاليد. يتغير هذا الطراز المعماري بتغير المعطيات الواقعية التي صنعته في الزمان والمكان. ونتساءل هل الطراز هو الطابع المعماري أو الهوية المعمارية؟ بعد التحليل المعمق يدرك تماما أن الطراز صفة مخصوصة لتشكيل معماري يشير إلى حقبة أو عصر حضاري بينما الطابع المعماري صفة أكثر عمومية تشير إلى تجاور ومقاربة تشكيل وبنى معمارية أما الهوية المعمارية فقد تشمل الإثنين معا (الطراز والطابع المعماريين) ولكنها ولكنها أكثر انتماء إلى كل الجغرافيا والتاريخ والبيئة في الوطن.
إن تطور المعمار شكلا ومضمونا وطرق إنشاء، يعبر عن تطور ثقافة المجتمع. فحصن جبرين أو كمت يسمى أيضا قصر أو بيت جبرين المحصن في بهلا هو نمط معماري متطور عن سابقه من المنشآت التحصينية من حيث التخطيط والتجهيزات والاستعدادات والزينة والوظيفة والانشاء والتسقيف عكس ثقافة بانيه الامام بلعرب بن سلطان اليعربي في القرن السابع عشر، وكذلك عكس ثقافة المجتمع الذي رحب به جماليا وفنيا، وعكس مستوى التقنيات والمعرفة التي تمتع صناعه. أعجب به الشعراء فكتبوا القصائد، وانبهر به المؤرخون فسطروا سيره التاريخية التي زخرت مقابساتها الثقافية. وأصبح المبنى مفخرة الإنسان والمكان في عمان في كل زمان. لكن هذا المبنى الضخم والفخم في آن ظلت واجهاته ومفردات متواصلة ٬ع أصالة وثقافة عمارة عمان.
جاء حصن الحزن أو بيت الحزم المحصن في الرستاق الذي بناه الإمام سلطان بن سيف اليعربي الثاني في القرن الثامن عشر الميلادي إضافة نوعية ذات قيمة حضارية وثقافية مضافة إلى هذا التطور العمراني العماني. فقد كشف عن نزوع العماني إلى بالجمال ومفرداته والحرص على ممارسته وتطبيقه وتمثله وتكريسه في حياته، الأمر الذي أشاع صناعة الجمال والزينة في المنشآت المعمارية.

* محاضرة أقامها مجلس البحث العلمي ممثلا بإدارة البرنامج الاستراتيجي للتراث الثقافي
وقبل هذين المبنيين كان هناك ضريح بيبي مريم ومسجد قلهات في صور الذين وصفهما ابن بطوطة بأرقى الأوصاف المعمارية، والذين حملا ملامح تطورية في ثقافة الإنسان والمكان، دلا مظاهر الثراء التي سادت هذه المدينة العمانية العريقة.

الخلاصة
نخلص من هذا التطواف الفكري على التأكيد بأن العمارة ما هي إلا حاضنة أو مرآة حضارية عاكسة لثقافة الإنسان في معتقداته وعاداته وتقاليده ونظام حياته الاجتماعية والاقتصادية، وسيرته السياسية. وهي محتوى يسرد تفاصيل حكاياه يمكن عبرها استنطاق التاريخ وتدوينه.
فالعمارة العمانية حياة الأنسنة، وصوت الأزمنة، وشهود الأمكنة. هي علم وفن وعمل وثقافة. هي علم يسجل الأفكار والابتكار والآليات. وفن يصوغ مرآئي الجمال ومرئياته، وينشر الراحة، ويخلق المتعة. وعمل يؤدي تنفيذه إلى بث التعاون بين الإنسان والإنسان، والفرد والمجتمع، والمجتمع والسلطة.
وتبقى العمارة ساردا كبيرا لحكايا البشر والحجر والمدر والشجر ومبدعا لقصائد البيان والبديع على أرض الوجود والخلود.

سعيد بن محمد الصقلاوي