[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
النظام السياسي المستنير والرشيد والذي يسعى لترسيخ مفاهيم الأمن والاستقرار وتحقيق قيم العدالة والكرامة الإنسانية ومبادئ الحرية والديمقراطية لمواطني أمته الوطنية في الألفية الثالثة, يجب أن ينطلق من تلك المساحة الشعبية التي تصنع تلك المقاربة الوطنية ما بين الحكومة والمواطنين في زمن الفوضى والانقسامات والصراعات الداخلية.
تعد مؤسسات المجتمع المدني امتدادا طبيعيا وحتميا لا يتحقق مفهوم الدولة المطمئنة والتي هي الشكل النهائي للدولة القادرة على ضمان أمن واستقرار الوطن والمواطن من خلال دولة المؤسسات والقانون إلا بوجودها ومن خلالها والعكس صحيح. فالمؤسسة هي حجر الأساس في بناء وقيام المجتمع المدني, إذ لا يمكن أن نطلق على أي دولة من الدول القائمة اليوم تلك التسمية ما لم تتمكن من إحداث تلك النقلة النوعية في مستوى الرؤى وآليات التعامل مع شؤون الحياة السياسية والمجتمع.
ونقصد بها تضمين سلطة مؤسسات المجتمع المدني كواحدة من السلطات الرئيسية التي يتضمن شرعيتها الدستور الوطني للأمة التي لا ترغب بالانفصال عن واقعها وضرورات العصر وتطور أنظمة الحكم إلى الحكم بالمشاركة مع كافة مؤسسات الدولة والمجتمع فيما يطلق عليه بمصطلح الحكم الرشيد, ويعرف هذا الأخير بأنه: ممارسة السلطة السياسية وإدارتها لشؤون المجتمع وموارده، وتحقيق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك، ويشمل ذلك مؤسسات الدولة الدستورية من سلطات تشريعية وتنفيذية بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص.
عليه فإن الدولة المطمئنة هي دولة المؤسسات وتحديد المسؤوليات وسيادة القانون, والتي هي بدورها: دولة المجتمع المدني والانضباط والتنظيم الإنساني من أجل تكوين إنسانية الإنسان وترابط الجماعة وتوحدها, وهي المفهوم الذي يؤكد على انتقال الدولة من سلطة الفرد أو الفئة أو المركز إلى سلطة المؤسسة, ومن المجتمع التقليدي إلى المجتمع المدني, ومن دولة تحكمها قوانين وأعراف القوة والفئوية وسلطة الفرد, إلى دولــة للمؤسسات والقانون بالمفهوم الصحيح, والتي يتم فيها توزيع السلطة واقتسامها لا على أفراد أو جماعات أو فئات بل على مؤسسات.
ويتضح أن المجتمع المدني هو ذلك القسم من (المجتمع الذي يتضمن النشاط الاجتماعي التطوعي المنظم, الذي يبدأ من حيث تنتهي الأسرة, وينتهي عندما تبدأ سلطة الدولة, وهو يشمل كل الجهود المنظمة المستقلة عن الدولة, والتي تعبر عن مصالح فئات معينة من المجتمع بما لا يتعارض والصالح العام, ومن أهم مؤسساته: الجماعات المهنية أو النقابات المهنية, والجمعيات الأهلية, وجماعات رجال الأعمال, والنقابات العمالية في حالة استقلالها عن الدولة, وما يطلق عليه المنظمات غير الحكومية).
ويقصد به إجرائيا (المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمهنية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال ـ نسبي ـ عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة منها: أغراض سياسية كتعزيز المشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني والقومي, ونقابية كالدفاع عن مصالح أعضائها, وثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجماعات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي والحضاري, وفقا لاتجاهات أعضاء كل جماعة, واجتماعية كالإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية).
لذا فإن النظام السياسي المستنير والرشيد والذي يسعى لترسيخ مفاهيم الأمن والاستقرار وتحقيق قيم العدالة والكرامة الإنسانية ومبادئ الحرية والديمقراطية لمواطني أمته الوطنية في الألفية الثالثة, يجب أن ينطلق من تلك المساحة الشعبية التي تصنع تلك المقاربة الوطنية ما بين الحكومة والمواطنين في زمن الفوضى والانقسامات والصراعات الداخلية, وذلك من خلال ترسيخ مبادئ الثقة وتبادل الأفكار وإشراك أبناء المجتمع مؤسسات وأفراد في اختيار خارطة مستقبلهم بدمجهم رسميا وفي إطار القانون في مؤسسات صنع القرار السياسي.
ما يجعلهم يقومون بدورهم المنوط بهم حضاريا, ومسؤوليتهم تجاه المشاركة في التنمية الوطنية, سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة, وبالتالي تحولهم مع الوقت إلى شركاء في الحكم الرشيد الصالح, ويتقاسمون تحمل المسؤولية تجاه قضايا وطنهم, وهو ما يعمق المناعة الوطنية ضد الاختراقات الخارجية ويرفع من سقف الثقة في الحكومة والنظام السياسي الحاكم, حيث تعد الثقة اليوم من أهم وأبرز الأوراق الرابحة للحكومات في الألفية الثالثة, ويؤكد مصداقية المساعي الرسمية باتجاه الانتقال إلى حكومة الأمة والشعب وسيادة القانون, لا حكومة الحزب والطائفة أو القبيلة والفرد و(تخطئ نخبة الدولة والسلطة إن هي اعتقدت أن قيام مجتمع مدني حديث يهددها في كيانها, بل ـ على العكس ـ فإن استقرارها من حيث هي دولة ومعه استقرار المجتمع الوطني برمته, رهن برسوخ مؤسسات هذا المجتمع, وثقافة المجتمع الحديثة في الحياة الوطنية).
على ذلك نجد أن التوصيف الأقرب من وجهة نظرنا لمفهوم المجتمع المدني ومؤسساته ومكانتها ودورها في ترسيخ مفهوم الدولة المطمئنة والحكم الرشيد هو ذلك التوصيف الذي يؤكد على تحرر المجتمع المدني نسبيا عن الدولة, ولكنه وفي نفس الوقت يضع لنفسه حدودا لهذا التحرر من هيمنة الدولة, حيث يجب أن لا يتم تجاهل أن مجتمعا مدنيا ذا مضمون فعلي لا يمكن أن يستمد أرضيته وقوته إلا من دولة صلبة وقوية, وأن درجة الخطورة المحتملة لمجتمع أقوى من دولته لا تقل عن خطورة دولة أقوى من مجتمعها, باعتبار (أن المجتمع المدني لا يتحقق إلا عبر الدولة, والتي يجب أن تضطلع بمسؤولية المساعدة على حل تناقضاته الداخلية, وتتوقع منه إدراك واجبه بالخضوع لسلطتها, وبعبارة أخرى, فإن هذا المجتمع ليس الدولة ولا يحل محلها, ولكنه لا يمكن أن يتمظهر إلا من خلالها, وعليه فإنهما في المحصلة الأخيرة يشكلان وحدة معقدة من الصراع والتكامل).
بناء عليه فإنه لا يمكن أن نصل إلى تحقيق مفهوم الدولة الآمنة المطمئنة في الألفية الثالثة؛ أي دولة المؤسسات والقانون, بحكومتها بعيدة النظر, ذات الفكر الاستراتجي والاستشرافي في التخطيط للمستقبل, تلك الدولة التي يمكن لها وحدها دون سواها أن تضمن أمن واستقرار وسلامة الوطن والمواطن الداخلي والخارجي, وتحقق مبادئ وقيم العدالة والمساواة التي ترسخ بدورها مفاهيم وقيم ومبادئ الحكم الرشيد بمختلف مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عصر أصبح فيه الأمن والاستقرار والطمأنينة عملة نادرة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد عبور العديد من العقبات ومواجهة الكثير التحديات التي لا يمكن تجاوزها إلا بتقارب الحكومات مع مواطنيها في كل التوجهات القائمة والقادمة, ومن خلال توطيد الثقة بينهما على كل المستويات, وبالمشاركة في الحكم بمختلف الاتجاهات.
وهو أمر أصبح مرهونا بوجود مؤسسات مجتمع مدني ذات قوة قانونية يضمنها الدستور, واستقلال لا يشطح بها بعيدا عن دولتها, فتتشارك والسلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية دور الحارس الأمين لدولة القانون والمؤسسات, والمكمل لبقية الوزن المفقود في عملية التنمية الوطنية بكل أشكالها السياسية والاجتماعية وغير ذلك. وباختصار، فإن مؤسسات المجتمع المدني هي جزء لا يتجزأ من قواعد بناء الدولة المطمئنة في الألفية الثالثة.