[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
".. ولنا أن نستعيد مشاهدات الشاب الصغير في عمره في حينها جورج حبش الذي شاهد بأم عينه ما جرى في اللد والرملة ويافا حين ملأت جثث الشهداء الشوارع في عمليات التطهير العرقي التي قادها إسحاق رابين، وقد تركت تلك المشاهدات آثارها العميقة على التكوين اللاحق لشخصية جورج حبش الذي قام بعدها بتأسيس حركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية في بيروت، التي انبثقت عنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..."

في إطار برامجها وخططها، اشتقت الحركة الصهيونية سياسة براغماتية عالية المرونة، وآمن أبرز دعاتها ومُنظريها بسياسة المراحل والخطوة خطوة، فدعا ديفيد بن جوريون أوائل القرن الماضي للاستيلاء على فلسطين دونما بعد دونم وشجرة بعد شجرة، وكان قد دعا من قبله أحد أبرز عُتاة الصهيونية فلاديمير جابتونسكي (ابراهام ترمبلدور) لحلول مرحلية مع الفلسطينيين والتشارك معهم في دولة وكيان واحد كحلّ مرحلي يُمكّن اليهود من الإجهاز اللاحق على الفلسطينيين. إلا أن التطورات التي عصفت بالأوضاع الدولية وانتصار الحلفاء في الحرب الكونية الثانية، وتفكك الحالة العربية وعجزها عن مواجهة سياسة الأمر الواقع الاستيطانية التي صنعتها بريطانيا وسلطات الانتداب على أرض فلسطين، دفعت غلاة الصهاينة للتشدد أكثر فأكثر، والإيغال في انتهاج طريق عمليات التطهير العراقي بإسناد دولة الانتداب وتحت رعايتها. وفي الوقت الحاضر نلحظ السمات ذاتها للسياسة التي زرعها وكرسها رسل الحركة الصهيونية، فحكومات "إسرائيل" المتعاقبة م ازالت تواصل نهجها القائم على المراحل في تمويت مسيرة تسوية القائمة "نظريا" على أساس الشرعية الدولية مع الفلسطينيين وحتى مع الأطراف العربية المعنية.
لقد تجلّت نتائج ومفاعيل تصريح آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 في ضياع الأرض وتشتيت الشعب صاحب الحق التاريخي، عبر عمليات التهجير والطرد القسري فقامت على أنقاضه "دولة إسرائيل" التي تُعتبر الدولة الوحيدة في العالم التي قامت بالقوة وباستيراد البشر من كل مكان واستيطانهم بعد إجلاء وسلب الأرض من أصحابها الشرعيين. ورغم أن الأمم المتحدة قد أقرّت تقسيم فلسطين وفق القرار 181 لعام 1947 (في ظل ظروف ومعادلات دولية معروفة) الذي خصص للدولة العبرية اليهودية بحدود 5893 ميلا مربعا بنسبة 56.47% من مساحة أرض فلسطين التاريخية مرتبطا ببقاء كل الفلسطينيين، حيث هم على أرض وطنهم داخل وخارج حدود التقسيم، فضلا عن إقامة الدولة العربية الفلسطينية على الأجزاء الباقية من أرض فلسطين البالغة بواقع 4476 ميلا مربعا بنسبة 42.88% من أرض فلسطين التاريخية، مع جيب دولي صغير في منطقة القدس مساحته 68 ميلا مربعا بنسبة 0.65%. إلا أن الدولة الصهيونية لم تحترم حتى حدود هذا القرار، حيث تُعَدّ "إسرائيل" الدولة الوحيدة أيضا في العالم التي أقيمت بقرار دولي هو قرار التقسيم، فتجاوزته بالاستيلاء على أغلبية أرض فلسطين التاريخية واستتبعت ذلك بالاحتلال الكامل لها عام 1967.
في السياق ذاته كان إسحاق رابين قد كَشَفَ في كتابه (ملف خدمة) وقائع طرد أبناء الشعب الفلسطيني من على أرضهم، حيث كان إسحاق رابين ضابط عمليات قوات البالماخ الصهيونية (كتائب السحق) التي احتلت وسط فلسطين في منطقة يافا واللد والرملة، وأشرف إسحاق رابين شخصيا على طرد أكثر من 80 ألف فلسطيني بالمذابح وقوة النار، في الوقت الذي قاد فيه إيجال ألون حملته على لواء غزة وبئر السبع ولاحقا لواء الجليل ومدينة صفد، بعمليات الترانسفير التي تواصلت على امتداد الأرض الفلسطينية عشية نكبة 1948. ولنا أن نستعيد مشاهدات الشاب الصغير في عمره في حينها جورج حبش الذي شاهد بأم عينه ما جرى في اللد والرملة ويافا حين ملأت جثث الشهداء الشوارع في عمليات التطهير العرقي التي قادها إسحاق رابين، وقد تركت تلك المشاهدات آثارها العميقة على التكوين اللاحق لشخصية جورج حبش الذي قام بعدها بتأسيس حركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية في بيروت، التي انبثقت عنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأصبح أحد أبرز قادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
وفي الحديث المباشر عن الأرض الفلسطينية، وعن عمليات التهجير والإجلاء القسري للفلسطينيين عن أرض وطنهم عام 1948، والاستيلاء الكامل على أملاكهم، فضلا عن إعلان قيام الدولة العبرية على أجزاء واسعة من أرض فلسطين، من المهم الإشارة إلى أن أطرافا "إسرائيلية" كشفت قبل عدة سنوات بعض الخفايا عن عمليات التهجير القسرية وحملات التطهير العرقي الصهيوني التوسعية ضد الشعب الفلسطيني، وكان آخر ما كشفت عنه ما حدث في بلدة (الطنطورة) جنوب مدينة حيفا، حين كشف الباحث اليهودي المحسوب على تيار "المؤرخين الجدد" (تيدي كاتس) عن وقائع المجزرة التي ذهب ضحيتها أكثر من 120 مواطنا فلسطينيا، فضلا عن تشريد مواطني البلدة بين مخيم طولكرم في الضفة الغربية وصولا إلى مخيم اليرموك في دمشق. كما كشفت المصادر ذاتها بعض التقديرات التي كان قد أعدها وزير "الخارجية الإسرائيلي" موشيه شاريت عام 1951 في جلسة الحكومة في الرابع من تشرين الثاني العام نفسه، حين أشار موشيه شاريت إلى أن تقديرات قيمة الممتلكات الثابتة فقط وغير المتحركة للاجئين الفلسطينيين البالغ عددهم آنذاك 805.69 ألف لاجئ آنذاك تفوق مليار دولار وفق السوق المالية للعام المذكور، وبأرقام اليوم فإن الحديث يدور عن ستة مليارات من الدولارات قيمة الممتلكات المتحركة فقط دون احتساب الفوائد.
ويُعلل موشيه شاريت تقريره المذكور لعام 1951، استنادا لما قدمته لجنة التوثيق التابعة للأمم المتحدة والمشكلة من دبلوماسيين من فرنسا وتركيا والولايات المتحدة، وهي اللجنة التي أقيمت وفق قرار الأمم المتحدة في (1948/10/11) وعقدت اجتماعاتها في لوزان ولندن وباريس.
وكان على اللجنة أن تعمل على تنفيذ قرار الأمم المتحدة وحل قضية اللاجئين بعودتهم إلى وطنهم فلسطين، واستنادا إلى موقف اللجنة أنشأت هيئة الأمم المتحدة وكالة الإغاثة الدولية، لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى حين عودتهم وتنفيذ القرار اللاحق الذي حمل الرقم 194 والقاضي بحق لاجئي فلسطين بالعودة والتعويض. وهي الوكالة التي يجري التآمر عليها الآن ومحاولات شطبها وتفكيكها وإنهائها كخطوة لا بد منها من الوجهة الأميركية "الإسرائيلية" لشطب وإنهاء قضية لاجئي فلسطين وحقهم بالعودة، وهي القضية التي تشكّل الآن العقبة الكأداء في مسار التسوية المطروحة أميركيا وبالرضا "الإسرائيلي" تحت عنوان "صفقة القرن" وبالأحرى "عار القرن".