تُعرف الفنون بتطورها مع مقتضيات الضرورات الحياتية، وتواكب حركة نمو المجتمعات الانسانية، وتقدم أشكال التعبير المناسبة لكل مرحلة من مراحل التطور الحضاري للأمم والشعوب، لهذا نشأ فن البانتومايم أو التمثيل الايمائي أو فن الحركات الإيحائية وتدرج في الظهور من حضن الممارسات الاجتماعية والدينية فواكب الظواهر والمستجدات التي قادت إلى تشكل لغة الجسد لتوصيل الرسائل والمشاعر والأحاسيس عندما تريد أن تعبِّر عن الفرح أو الحزن وعن الحرب أو السلم، فكما هو معلوم أن لغة الإشارة هي اللغة العالمية الأولى، ومشاهد الرقص الصامتة والحركات الإيمائية كانت تجسِّد الحياة الدينية للشعوب القديمة.
من هذا التأسيس والمدخل الاجتماعي استمد المسرح بكل أنواعه منذ عرف أيام الإغريق الكثير من طقوسه من هذه المرجعيات الاجتماعية، ومنها جاء فن التمثيل الإيمائي والذي تُطلق عليه بعض المراجع فن التمثيل (الأخرس) فمصطلح (فن البانتومايم ) يعود إلى اللغة الإغريقية، وهي مشتقة من كلمتين Panto) ) وتعني الإبهار و(Mimeomai) وتعني التقليد، ومن مجموع هاتين الكلمتين انبثق مصطلح البانتومايم أو فن التمثيل الإيمائي الذي يعني فن الإبهار في التقليد أو فن المحاكاة لكل ما تحتويه الحياة باستخدام الحركة وتعبيرات الوجه بدلاً من الكلمات المنطوقة للتواصل بين أفراد المجموعات.
يتداخل فن البانتومايم عند الكثيرين مع فن (المايم أو التمثيل الصامت) والذي يختلف في وسيلة التنفيذ مع اتفاق الاثنين في عدم استخدام الكلمات المنطوقة، وللتقريب أكثر فإن التمثيل الصامت يمكن التعرف عليه في الأفلام الصامتة مثل مستر بين (Mr Bean) والحلقات الكرتونية شون ذا شيب (Shaun the Sheep)، ويمكن تشبيه التمثيل الصامت كمن يجلس أمام التليفزيون ويقوم بكتم الصوت فلا يرى من المشهد الدرامي إلا حركة الشفاه والتنقلات المكانية ولكن دون صوت أو مؤثرات، أما البانتومايم فهو فن التمثيل المؤدى من قبل ممثل أو مجموعة ممثلين على خشبة المسرح أو في مسرح الشارع بواسطة الحركة الايحائية للجسم، بحيث يمكن تكوين تعبير ذي معنى بواسطة يد الممثل الخاوية فهو يستطيع أن يصنع معك بخيالك العالم الخاص به ويجسد معك الأشياء فمؤدي أو ممثل البانتومايم يفكر ويؤدي تجسيدا حركيا والمشاهد عليه التخيل، فهو أقرب لفن البالية إذ الإيقاع مهم والتوقيع بحركة الرجل والجسم يلعبان دورا رئيسيا في الأداء.
فن البانتومايم له تاريخ درامي طويل، وبعض الباحثين يرجعه إلى القدماء المصريين والمظاهر الاجتماعية والسياسية التي كانت تقدم في عهد الفراعنة والكهنة في المعابد، فعلى سبيل المثال عندما كان الملك لا يحضر المعركة كان يقوم مهرجو البلاط بالتمثيل الصامت أمام الملك ليشرحوا له المعركة وذلك عن طريق تأدية حركات تقليد ورقصات بغرض التعبير الحركي وكأن الملك كان حاضرا في قلب المعركة، لكن هذا الفن عرف أكثر على أيدي اليونانيين، الذين طوروه وقاموا بتأديته على المسرح عن طريق عروض مسرحية كبيرة وكان التمثيل بالبانتومايم يستعان به كفواصل بين بعض العروض في المهرجانات الإغريقية للمسرحيات التراجيدية وكذلك لا يخلو عرض جماهيري من المجاميع التي تنفذ التمثيل بالبانتومايم والحركات المعبرة والراقصة والمتداخلة والمعبرة عن الكثير من المعارك الحربية أو الانتصارات الكبيرة أو الأمراض الخطيرة أو الأعراس والاحتفالات الباذخة والمثيرة واستمر هذا التطور لفن البانتومايم في العصور اللاحقة وخصوصا في نهاية العصور الوسطى الاوروبية واشتهرت الكوميديا المرتجلة (دي لارتي) بتقديم المشاهد الصامتة والمعبرة بالجسد ووجود شخصيات مقلدة تتكرر في معظم العروض الكوميدية فيها.
إن من أهم الخصائص التي تميز فن البانتومايم هو استخدامه لعنصري الحركة والإشارة المتقنة بالجسد، وهو فن تمثيلي محترف مثله مثل باقي الفنون الأدائية يخضع لقوانين فن التمثيل واشتراطاته من ناحية منهج بناء الشخصية والتأثير على المشاعر وعواطف المشاهدين وكذلك يخضع لوجود فكرة وموضوع مسرحي يجسده ويناقشه ويقدمه من خلال العناصر الدرامية المعروفة في الكتابة للمسرحية من مقدمة ووسط وعقد وحل أو نهاية يتتبعها المشاهدون، ويختلف وقت عرض المسرحية لفن البانتومايم وطوله باختلاف الموضوع المطروح والإمكانيات الفنية للمسرحية المقدمة فمثل هذه العروض تستخدم الإيقاعات والموسيقى كعنصر مساعد في الاداء وتتداخل الهمهمات البشرية في مد المؤدين بتجسيد مشاعر الأبطال الداخلية وحالاتهم النفسية التي يمرون بها في تأدية الشخصية أو الشخصيات المساندة لها ففن البانتومايم هو فن أصيل وقائم بذاته من خلال الخصائص والعناصر التي تكونه، ولكنه أيضا يمكن الاستعانة به كشريك في العروض الفنية الأخرى كفن البالية والمسرحيات الغنائية فإنه يقوم بدور المساعد والداعم لتوصيل رسالة الفن الأدائي المقدم.
ختاما،فإن هناك نقصا في تأدية فن البانتومايم كشكل فني حديث ومستقل في عالمنا العربي رغم التجارب المتناثرة في بعض الدول العربية والتي أقامت مهرجانا يتيما له أو قدمت عرضا مسرحيا، ولكن هذا الجهد لا يرقى إلى التراكم والاستمرارية التي تمنح هذا الفن مساحة مستحقة له مثل باقي الفنون الادائية، يقول (بريندان جيل) في مجلة نيويورك الصادرة في 28 مارس 1983م: " في قلب البانتومايم يكمن التوق السامي إلى الكلام المفقود، وحتى أثناء المتعة التي نستشعرها، نقيس ذلك الفاقد، ونحيط المؤدي الصامت بذلك التعاطف الذي يتولد تجاه أي عاهة خطيرة مستديمة.. ومواجهة صمت مفروض غير طبيعي يساوي في واقع الأمر، مواجهة الصمم" البانتومايم فن معبر وخطير في الوقت ذاته لأنه يتناول بالتعبير كل شيء بما فيها الممنوعات من الكلام ويستطيع الكل فهمه من الأطفال وحتى الكبار وتستطيع الأسرة مجتمعة حضوره، فهل نجد له في قادم الايام المساحة المستحقة له من العناية والرعاية والدعم، هذا هو السؤال ! إذا ما قارنا دولا كثيرة يتواجد فيها أعداد من المهرجانات طوال العام للبانتومايم وفي معظم مدنها وشوارعها الكبيرة.

د. سعيد بن محمد السيابي
باحث مسرحي بجامعة السلطان قابوس