الفن المعاصر هذا الفن العصي على الفهم لدى نسبة كبيرة من الجماهير نظرا لاعتماده على العديد من الأساليب التي تبدو ملغزة ومعقدة في كثير من الأحيان، حيث يميل نحو التجريد والمفاهيمية واستعمال الشيء اليومي إما بتركيبه أو عرضه كما هو، كما البنائية واستغلال آخر التطورات التكنووجية والإختزال.... وغيرها من التعبيرات غير المألوفة وينحو في كثير من الأحيان منحى العرض والانفتاح على الفضاءات الممتدة والمفتوحة مما يجعله مثيرا للجدل وللتفكير...وحتى الاستهجان في كثير من الأحيان حتى من أهل الفن وليس فقط من الجمهور العادي، حيث يخرج بالفن من دائرة المعتاد نحو فضاءات أخرى لمعانقة الفكرة، يحاول من خلالها الفنان إيجاد تعبيرات جديدة يتجاوز من خلالها أن يكرر نفسه أو غيره فلا ينفك يبتكر أليات وأساليب تساهم في جعل هذه الممارسة نوعية، تفاعلية...كما تخاطب في كثير من الأحيان المجتمع بصفة مباشرة ومن دون وسيط عندما تخرج لمعانقته ومواجهته في فضائه المعتاد فتستوقفه وتستفزه بوجودها بعد أن لم تكن.
وفي هذا الاطار وضمن فعاليات أيام قرطاج الجهوية للفن المعاصر قدمت تنصيبة بعنوان رسائل خاصة هي عبارة عن 200 رسالة وضعتها في 200 ظرف أبيض معلقة بخيوط بيضاء في الاشجار التي تحتل مساحة 200 م على الرصيف في وسط المدينة وفي احد اكثر الشوارع حركية في مدينة سليانة لتؤثث كامل مساحة الرصيف حوالي 5 رسائل في كل شجرة. أين تفاعلت مع الرياح لتغير من المشهد المعتاد للأشجار وتجلب كل من يمر من هناك بايقاعها المتكرر ليفتحها ويكشف عن غموض فحواها.
يمثل هذا المشروع محاولة جادة للتواصل مع مختلف فئات المجتمع حيث تنقلت بين المقاهي والمؤسسات العمومية المختلفة والشوارع والمحلات التجارية في محاولة لأخذ رسائل مكتوبة بخط اليد على اوراق بيضاء تم تجهيزها سابقا، بمثابة هموم وتطلعات وتساؤلات ومطالب ومشاعر... اهالي الجهة حول مدينتهم، فاختلفت الرسائل من حيث المحتوى، حسب الفئات العمرية كما حسب المستويات الثقافية والعلمية فجاءت أغلب طلبات الاطفال متمحورة حول أسباب غياب مدن الالعاب والمسابح وفضاءات تعلم الموسيقى...في حين جاءت رسائل الشباب في شكل تعبيرات مختلفة اما تعبير مباشر عن استياء و تذمر من التواجد بها أو في شكل نقد او ما يسمى بالكوميديا السوداء لأغلب ظواهر هذا المجتمع، في حين عبرت فئة اخرى بكل جدية عن النقائص وطالبت بضرورة أن تأخذ سليانة حقها كما بقية الجهات في التمنية والصحة والتشغيل...اما الكهول والشيوخ فصبت أغلب رسائلهم حول اشكاليات في علاقة بحق الجهة في أن تصبح منطقة سياحية خاصة أنها تحتوي مناطق اثرية ولما لا التوجه نحو سياسة السياحة البيئية لما تزخر به هذه المنطقة من طبيعة خلابة، كما عبرت مجموعة أخرى عن حقهم في مستشفى جامعي وفضاءات عمومية للعائلات...وأبدت فئة كبيرة من الشباب والكهول رغبة كبيرة لضرورة تجاوز النقائص الموجودة على مستوى الفنون فطرحوا الاسئلة عن سبب غياب دور تعلم المسرح والموسيقى والفنون التشكيلية... كما غياب المسارح وقاعات العرض والفنون عن الشوارع وابرزوا ان الفنون ليست من الكماليات بل هي من الضروريات التي تساهم في ارتفاع نسبة الوعي لدى الشعوب وتغير عقلياتهم وجعلها اكثر تصالحا وانفتاحا...كما عبرت فئة منهم عن وعي كبير تجاه البيئة فطالبت بوضع حاويات بطرق معينة كتبت بالاسم كما اشاروا الى ان الاشارات والتوعية البيئية غير كافية بالمدينة...الى جانب الكثير من الملاحظات والتجاوزات التي ترتكب في حق المواطن في العديد من الادارات.
رسائل أهالي سليانة بكل ما فيها من مطالب وتعبير وتذمر وأحيانا قسوة تعكس ما يحمل هذا المجتمع بداخله ...تعبيرات لم تجد مجالا لتخرج للعلن بصفة مباشرة... عن طريق الفن حاولت أن افتح هذا المجال للبوح والتفاعل وتقبل الاختلاف وضعتها في رسائل معلقة في الأشجار في الطريق العام أين استفزت الجمهور ودعته للاطلاع عليها والتفاعل معها ففتحت مجالا للحوار في الفضاء العام بين مختلف شرائح المجتمع، كان تفاعلا كبيرا بدأ منذ اللحظة الاولى التي بدأت فيها تعليق الرسائل على الاشجار، حيث بدأت الاسئلة فيما بين المارة حول فحوى تلك الرسائل، توقفت السيارات والدراجات وجاء الجمهور من المقاهي والتفوا حول الرسائل اين طلبت منهم بلطف قراءة الرسالة ثم اعادتها الى الظرف وشيئا فشيئا والى حين انتهائي من تعليق 200 رسالة كان الرصيف يعج بالجمهور الذي تفاعل بشكل لافت وكبير مع التنصيبة، اين طرحت العديد من الاسئلة وفتح حوار بين مختلف شرائح المجتمع الحاضر وسرعان ما ازداد العدد مع بلوغ توقيت افتتاح الحدث اين اشاد الاهالي بهذه الحركة التي جعلتهم يتعرفون على اراء ومطالب بعضهم دون سابق انذار او تخطيط كذلك اشادوا بأهمية فكرة مواجهة العمل الفني في الشارع وخروج هذا الاخير من اطاره المغلق متوجها اليهم ومستفزا قناعاتهم وعاداتهم والتي ترتبط عادة بالمعنى المتعارف عليه للفن حيث تعرفوا على نوعية جديدة من الممارسة الفنية والتي لم يألفوها من قبل، وبهذا يساهم الفن في فتح سبل التفاعل كما يكشف عن درجة وعي المجتمعات ويدعم الحس النقدي وروح المبادرة للتغيير...
فحين يذهب الفن الى حيث لم يكن من قبل، وحين يقول ما لا يتوقع أن يقال عن طريقه، وايضا حين يكون سبيلا لتبادل الآراء دون شتم وبعيدا عن ضجيج مواقع التواصل الاجتماعي فسيساهم حتما في تحويل وجهة علاقتنا مع الآخر حين يفتح قنوات الاتصال معه لمعرفة طرق تفكيره وتعبيره أين يصبح عنصرا أساسيا في تدريب المواطن على فهم المجتمع الذي يعيش فيه كما يسمح له بتطوير روح المبادرة النقدية لديه. بما هو يفتح المجال له ولغيره المختلف عنه من حيث العمر والثقافة والمعارف ...لكتابة رسائل خاصة يعبرون من خلالها عن آرائهم حول كل ما يخص جهتهم في جميع الميادين وبكل حرية يطرحون المشكل يتساءلون وحتى يتذمرون ولما لا يقترحون... فنجد أنفسنا بين مجموعة من الرسائل المعلقة على الاشجار في الطريق العام في شكل "تنصيبة" وفي متناول المواطن الآخر لتستفزه بحضورها الغير معتاد ليفتحها ويطلع على آراء مختلفة دون الدخول في صراع مع كاتبها بل يجد مساحة حرة لتأملها ولما لا قبولها وإن اختلف معها من حيث المبدأ.
رسائل الحرية هذه تعطي للفن مساحات أخرى ليخرج الى الفضاء اليومي وليلعب ادوارا إضافية حيث تهدف هذه المشاريع الفنية ذات العلاقة المباشر مع المواطن إلى التفاعل والتفكير، من خلال المساهمة في انتاج هذا العمل الفني من خلال تعبيرهم بالكتابة حول الموضوعات الرئيسية التي تخص مدينتهم كالمواطنة ، والبيئة ، الصحة، الاقتصاد ، الاستثمار والتنمية وتقاسم المسؤوليات ، والعيش معا ، والديمقراطية التشاركية ...
ما الذي يمكن أن نتخيله معا ؟ ثم نشترك في إنشائه رغم اختلافنا الايديولوجي؟ ، كيف نشارك جميعا في التعبير بآرائنا ومشاعرنا المختلفة حد التضارب أحيانا في بناء وحدة مواطنين مختلفين من حيث الاعمار والتكوين والانتماء والثقافات والايديولوجيات والمطالب... ؟ فلنفتح عن طريق الفن المعاصر طرقا متعددة للنظر والتفكير ولنتقبل اختلافنا...

د. دلال صماري
باحثة وتشكيلية تونسية