قد يظن البعض أن ما أكتبه هنا من تصريحات واعترافات عن واقع هذه المدينة ما هو إلا جزء من المشاهدات والمناظر التي يجب على المسافر أن يفيض في وصفها عندما يقفل عائدا إلى وطنه، معبرا عن غبطته بالمتعة التي لم يحظ بها غيره ممن لم يرافقه، أو مدللا عن مواقفه من كل ما مر به في رحلته، قد يظن أكثركم أن هذه الرحلة ليست الا مثال لذلك، والحق أن الأمر هو أبعد من ذلك قليلا، إنني هنا كما ترون أسجل اعترافاتي هذه لأبين لكم ما قد شاهدته فعلا وعاينته في مجتمع مختلف عن مجتمعي، مجتمع الإنسان البسيط الطيب صاحب الفضائل والمروءة والأخلاق الحميدة ولا أقصد طبعا أني عكس ذلك ، لكن الإنسان عادة ما يميل إلى أن يكون طيبا كريم المحتد واليد وكثير الفضل ووافر الأخلاق عندما يكون عمره قليلا مفتقرا الى الخبرة، وعندما تكون يداه قاصرتين خاليتين من المال والسلطة، وكلما زاد ثراؤه وتقدم به العمر كثر حرصه على ماله وترسخت قناعاته ومعرفته بالحياة وخباياها، فتنطفئ فيه جذوة الحماس إلى فعل الفضائل التي يتغنى بها سائر الناس دون أن يتسموا بها، ولست أقول هنا أيضا أن الثروة والعمر هما نقيض الطيبة والكرم والتواضع، ولكنهما نسبيا متلازمين أو على أقل تقدير أن عامة الناس يؤمنون بذلك، ونحن لا نلومهم على ذلك كما لا ألومكم إن اعتقدتم إني إنما أقصد من هذه المقدمة أن أعلل بعض مواقفي وتصرفاتي غير المعهودة التي أعطت بعض القراء طابعا بأنني شخص بخيل ومتكبر، فأنا أؤمن تمام الإيمان لو أن لدى أحدكم مثل ما لدي من تجربة وثروة لعد ما أقوم به هنا تبذيرا وتضييعا للمال وإسفافا في الخلق لا يطاق، ولهذا عمدت ألا يعلم احد عن سفري هذا مع صديقي المسكين هذا الذي لا يفتأ يلمح لي عن قيم الكرم والتواضع والعدالة، وأنا أقابله بالصمت لأن من العسير جدا أن تقنع مثقفا وشابا قليل المال والسلطة متوهج الحماس للانسانية ومحامدها، من الصعب والعسير جدا أن تقنعه بعكس المثل التي يؤمن بها والتي تحكيها الكتب والديانات.
ما أسهل أن يكون الانسان كريما فاضلا طيب المعشر سهل المأخذ، أما الحرص وحسن إدارة المال وإدارة الناس ومداراتهم فهي من المثالب التي يمكن أن تعدوها أنتم أنفسكم بخلا ولؤما وسوء معشر ومساوئ خلق، إن المرء مهمها كثرت ثروته وبلغت سلطته لا يمكنه أن يفرط فيها تفريطا بدواعي التحلي بمكارم الاخلاق. حتى أولئك الذين يخرجون عن ذلك فينفقون ويسرفون ويتركون سلطتهم فهم لا يفعلون ذلك إلا لسبب معيب في ملكهم أو لرجاء يرجونه من خلال فعلهم يعيد إليهم ما يقدمونه أضعافا. تيقنوا من أن لا أحد يفعل الخير المحض من أجل الخير المحض دون ان يحصل في مقابله على سمعة طيبة أو ذكر عند أحدهم أو متعة وتسلية في نفسه.
أما أنا ومن هم مثلي فنحن نعيش حياتنا وفق حسابات وكشوفات وخطط موضوعة لأجل تحقيق أهداف سامية ومرام عالية تساهم فعليا في الحفاظ على مكانتنا المتقدمة في الحياة الكريمة والسعي الى تحقيق الافضل، تصوروا لو أن لي ثروة من المال تبلغ 100 مليون ريال نقدا، ثم جاءني أحد البائسين واستعطفني ان أمنحه 10 ريالات فمنحته إياها فكم ستصبح ثروتي، إنها ستصبح تسعا وتسعين مليونا وتسعمائة وتسعا وتسعين الفا وتسعمائة وتسعا وتسعين ريالا 99999990 ريالا، بمعنى إنه إذا عرض علي مشروع بمبلغ ١٠٠ مليون ريال فلن أكون قادرا على شرائه وسأضطر الى الاقتراض، وبمعنى آخر فقد تراجعت ثروتي قليلا وأصبحت أفقر من غيري نسبيا بينما تقدمني آخرون وأصبحت حظوظهم أفضل. لهذا لا تتعجبوا أن قلت لكم أن كل ما أفعله هنا وما أبذره من مال في سهرات صديقي وفي رحلاتنا هي ليست من باب الكرم وإنما هي كلها ضمن حسابات مدروسة ومسجلة.
ولتعذروني على كل هذه الاعترافات والتفسيرات التي ارتأيت أن من الضرورة بمكان أن أستفيض فيها حتى أقدم لواقعة حصلت أمامنا في هذه الليلة الاخيرة، هي أحد تلك الحوادث التي لا يمكن لها أن تحصل أبدا إلا في خيال الروايات والمسلسلات الدرامية وكتب المراهقين، لكنها من المستحيل أن تحصل فعلا في الواقع، لا ولا حتى في الروايات وخيالات الكتاب والروائيين لا يمكن لها أن تحدث، إنها حادثة غريبة قد أحدثت في نفسي وقعا مجلجلا على الرغم من ما قد رأيته وعايشته في حياتي وفي سفري الطويل العريض حول العالم، أما صديقي جمال فإنه لم يتمالك نفسه البته إزاء الحادثة وأراد أن يلحق بالفتاة، لولا أنني قبضته من ساعده.. !!
دعوني أبدأ الحكاية من أولها، أي من حيث ما انتهت حلقتنا السابقة، فبعد أن عدنا إلى الفندق وخرج جمال في سهرته المعتادة على النحو الذي يقضيها كل ليلة، وحين صحوت في اليوم التالي كما اعتدت أن أصحو كل يوم في الساعة نفسها وأنزل الى الشارع نفسه وأصادف الناس أنفسهم وألقى المسكينة نفسها فأنقدها بقايا الدنانير فتدعو لي الدعاء نفسه وأجيبها بالآمين نفسها وأعود الى الفندق في الدقيقة نفسها فأرى رشا بجمالها وبهائها وابتسامتها الناعمة ولا أرى جمال حولها فيغمرني الغضب والأسف عليه وعليها،عندها يأخذ اليوم منحى آخر في تفاصيله، بين أخذ وجذب بين عالمينا، لقد قرر جمال أخيرا أن يذهب الى المكتبة وأن يزور المتاحف فأخذنا هشام السائق رأسا الى حدائق الحسين، وهي أكبر حدائق الاردن تقع على سفح تل على شارع المدنية الطبية، وهي حديقة شاسعة جدا فيها الكثير من الاشجار والظلال والمسطحات الخضراء، وفيها العديد من الملاعب واماكن جلوس العائلات ومقاعد في الممرات ، كما تتوزع المطاعم حول الحديقة ، وفي الحديقة يوجد عدة متاحف منها متحف السيارة الملكي وهو متحف معروف لدى الأردنيين لأنه يحتوي على جميع السيارات الكلاسيكية القديمة التي استخدمها الملك الحسين، لهذا اخترت زيارته فأنا رغم كل شيء أحب السيارات خاصة تلك السيارات الكلاسيكية الثمينة التي تعيد لي ذكريات خاصة جدا، كما أن لدي هواية أيضا في تجميع هذا النوع السيارات، تلك السيارات المرسيدس كلاسيك التي أهداني إياها أبي في السبعينيات ما زلت أحتفظ بها نظيفة لامعة في مأرب سيارتنا في المنزل، إنها قوية وثمينة جدا وقيمتها ليست في قدمها فحسب وإنما في الذكريات الجميلة التي تربطني بها، إن الانسان دائم الارتباط ببدايته الاولى وأشيائه الصغيرة التي بدأ معها مشوار حياته، كان الدخول الى المتحف غير مكلف كثيرا، فقط ٣ دنانير للشخص الواحد، وأمام مدخل المتحف وضعت طائرة "دي هافيلاند دوف” يقال أن هذه الطائرة هي الطائرة التي تعلم فيها الملك الراحل الحسين الطيران وفيها أيضا سافر من عمّان الى القدس، وفيها نجى من محاولة اغتيال، كما رأينا سيارة مكشوفة من نوع لينكون كابري موديل ١٩٥٢ مكتوب عليها أن الملك الحسين كان يستخدمها أثناء دراسته في انجلترا، وهناك أيضا سيارة روز رايس فانتوم موديل ٦٨ مكتوب أنها صنعت خصيصا للملكة زين الشرف والتي أهدتها للملك الحسين، على كل حال المتحف يضم أكثر من ٨٠ مركبة كلاسيكية بين المركبات العسكرية والدراجات الهوائية والنارية القديمة، والمتجول في المتحف يتعرف على تاريخ الاردن منذ تأسيسه وحتى اليوم، فكل مركبة وكل أداة هناك مرتبطة بحوادث وتواريخ حصلت في تاريخ الأردن، لا سيما التاريخ السياسي في المنطقة.
وبعد المتحف خرجنا الى المدينة الطبية لأنني أردت أن أجري بعض الفحوصات في ظهري لأقف على أمر هذا الألم الذي ظل يلازمني طوال الرحلة أما جمال فقد ذهب الى متحف الفنون الجميلة والى متحف الآثار الاردنية وهما متحفان جميلان بالتاريخ والحضارة والفنون لكنهما وحسبما أخبرني جمال شحيحي المقتنيات مقارنة بما في متاحف سلطنة عمان أو بالمتاحف التي رآها في سفره، كان يقول أن الاردن تستحق ان يكون لها متحف كبير جدا على قدر ما لديه من تاريخ ومدن أثرية وكهوف وتنوع ثقافي وقلاع وما مر عليه من حروب وتغييرات، وأن هذه المتحاف الصغيرة المنتشرة هنا وهناك لا تعطي الأردن حقه، وسألته هل ذهب الى المركز الثقافي فأخبرني بأنه قد ذهب فعلا إلى مركز الاميرة هيا الثقافي الذي يقال بأنه هدية من الشاه الايراني للملك عام ١٩٧٦، لكنه تفاجأ أنه لا يمسح بدخول الكبار في المتحف، وعندما سألهم أخبروه أنه مركز ثقافي مخصص للاطفال فقط..!!.

وسخرت منه لأنه لم يقم بالبحث والسؤال عن المكان قبل الذهاب اليه، وهذا عائد الى سوء تدبيره وتخطيطه، ولحسن حظه أنني موجود حوله لأضع نظاما لرحلتنا هذه وإلا لضاع وحيدا في هذه المدينة..
وفي المساء جاءنا رامي الذي حدثتكم عنه في بداية الرحلة، كان رامي طوال أيام رحلتنا لا ينفك يرسل الى جمال الرسائل والتوسلات حتى نقبل دعوته لنا لتناول وجبة منسف في منزلهم مع أمه وعائلته، وكنت أنا كما شرحت لكم سابقا لا أقبل أن يدعوني أحد، كما لا أقبل أن يتفضل علي أحد بشيء، أنه أمر معقد بالنسبة لكم لكنه بالنسبة لي من صفات المروءة وقد شرحت لكم سابقا بما فيه الكفاية لماذا أرفض، غير أن رامي ألح علينا إلحاحا عجيبا حتى أنه أخذ رقم هاتفي من جمال وبدأ في التوسل إليّ لأقبل الدعوة وبعد أن أفقدته كل أمل في قبول الدعوة ورأيته في حال يرثى لها من الأسف والحرج الذي لم أفهم له سببا حتى الساعة، بعد كل ذلك وافقت لكن على شرط، وشرطي هو أننا لا نذهب الى منزله بل يختار لنا مطعما جميلا نقضي فيه ليلتنا الاخيرة وأنني سوف أدفع فاتورة كل شيء، لقد تعمدت أن أفعل ذلك لأفقده لذة الانتصار التي كان يرجوها من دعودتنا في منزله، وأفقده لذة التفضل علينا، ها أنتم ها هنا تعدون هذا تكبرا وتبجحا مني، لا هو ليس على ما تظنون، تصوروا حجم الألم والشقاء الذي قد يتسببه لنفسه ولأمه وعائلته من أجل استضافتنا، لا شك أنهم سوف يقضون يومهم يعدون أفضل ما لديهم من طعام، ولا شك أنه سوف يستهلك مصروفه الشهري في شراء مستلزمات هذا العشاء، ولا شك أنه سوف يخرج من عمله مبكرا ويغضب مديره وربما يذهب اليه متأخرا في اليوم التالي فيتسبب له في مشاكل هو عنها في غنى، فما هو الوازع لكل هذا العناء، لاحظوا أن كل تصرفاتي إنما تصدر عن حسن نية وإلى غاية كريمة، لكن رامي لم يعجب بقراري هذا وجمال من باب أولى رأى أن هذه دناءة مني واستحقارا واستخفافا بالشخص الداعي، على كل اضطر الجميع الى الرضوخ الى قراري، وبعد المغرب كنا مع رامي في سيارته يأخذنا بجولة في أنحاء المدينة، كان الظلام دامسا ولم نستطيع أن نبين شيئا سوى شارع الوكالات الذي قال أنه يقضي مساءته في الشارع مع أصدقائه، ثم مضى بنا الى شارع الرينبو وهذا الشارع هو أهم الشوارع السياحية على جبل عمّان، حيث أن المنطقة الحجرية المحيطة به اعتبرت منطقة محمية فلا يمكن بيع أي بناء أو أحداث اي تغيير فيها الا بموافقة المؤسسات المختصة بالاثار، وعلى أرصفة هذا الشارع يمشي الناس صعودا ونزولا مستمتعين بالمناظر الجميلة للبيوت والتلال المحيطة، وهناك الكثير من المطاعم والمقاهي، واختار لنا جمال مطعما ومقهى يعرض فيه مباراة كرة القدم، كان مطعما جميلا مزدحما بالناس الذي بدا عليهم الثراء والراحة، وأكثرهم يقعدون على طاولات متسديرة يتناولون الطعام ويلعبون الورق ويشاهدون المباريات، كل طاولة وشأنها دون أن يتلفت أحد إلى أحد، واختار لنا النادل طاولة في منتصف المطعم، وأحضر لنا عشاءنا ، وهنا وقعت الحادثة العجيبة، إنني أكتب لكم من مكتبي هنا في مسقط وقد مضى على الحادثة أكثر من ٦ أشهر إلا أنني ما زلت مأخوذا بدهشتها وكأنها حصلت الأمس، تصوروا كنا جالسين على طاولتنا منهمكين في أحاديثنا وعشائنا، وجمال مستغرق في مباراته، ثم تدخل فتاة صغيرة مسكينة، إن عمرها لا يتجاوز ١٩ عاما وربما أقل، لكنها كانت فقيرة بائسة ضعيفة، إن ملابسها القديمة تفضح ضعفها وتشرح كل شيء من معاناتها وما لاقته من قسوة الحياة، لقد كانت تلبس بنطال جنز ازرق واسعا أكثر مما ينبغي له وكان عند أسفله مطويا مرات كثيرة على الطريقة القديمة، أما حذاؤها فقد كان لونه حليبيا مختلطا بالطين، وقد تلفعت بقميص بنفسجي من الصوف يحميها من البرد، كان شعرها كحليا وعيناها خضراوين جمليتين، الناظر اليها لا يمكن أن يخطئ الفقر والبؤس في وجهها وآثار الشقاء والعمل في يديها والهوان في مشيتها، على الرغم من أنها كانت تمشي بكل حيوية ونشاط الشباب، كانت تحمل منشورات في يديها تقف بها على كل طاولة تعطيها المهتمين فيقرؤها فإن شاؤوا نقدوها بعض الدنانير وإن لم يشؤوا أعادوا إليها المنشور، وكنت أراقب المشهد متعجبا من نادلي هذا المطعم كيف يسمحون للمتسولين بدخول المطاعم، إلا أنني مع ذلك لم ألاحظ أي تذمر من أحد، وسألت رامي عن الأمر فأخبرني بأنها فتاة بائسة من لاجئي فلسطين، وأنها تقوم بالإنابة عن بقية اللاجئين الذين هم أكثر منها ضعفا وأقل حيلة تقوم بالنيابة عنهم بالتجول وجمع ما يمكن من جمعه من ماله لإعانتهم بالطعام والكساء والدواء، إن اللاجئين هم ليسوا فقراء ولا مشردين ولا متسولين إنهم جاءوا من عوائل وبيوت كريمة ومحترمة ولديهم منازلهم وأموالهم وأحلامهم وحياتهم الجميلة في فلسطين لكنها الحرب هي ما يجعلك تفقد كل شيء رغما عنك حتى ذلك الذي تحتفظ به من كرامة وأنفة في نفسك سوف تتضطر الى ان تستغني عنه شيئا فشيئا، إن لم يكن من أجلك فمن اجل أخوتك الصغار أو عائلتك، إن هذه الفتاة المسكينة هي إحدى هذه الضحايا إنها فتاة مثقفة وقارئة، انظر الى ترتيب منشوراتها وحقيبتها المثقلة بالاوارق والكتب، إنها تكتب كثيرا في دفترها الصغير، تكتب أشياء تعطيها الناس فيقرؤها، لماذا تفعل ذلك؟ هل هي بكماء؟!!
يا إلاهي إنها بكماء!، بكماء!، بكماء!، ألا يكفيها أن تكون بائسة فقيرة، ألا يكفيها أن تكون ساقطة في وحل من الشقاء والتعاسة، ألا يكفيها كل هذا الألم المحيط بها منذ ولادتها في وطن مسلوب ألا يكفي تهجيرها في بلدتها وأهلها لتقضي بقية عمرها متسولة نيابة عن الفقراء والمساكين والبؤساء، متعرضة للسعات البرد القارص وحر الصيف وتعب المشي والتنقل ومذلة الطلب، ولئامة الألسن، أبكماء!!، يا إلاهي كيف لهذه الفتاة المسكينة أن تصمد على وجه الارض وهي مكبلة في مستنقع من الشقاء، ما هذه النفس الشقية!!، ربما يظن بعضكم أيها القراء أنني سوف أبادر إذا أقبلت نحو طاولتنا فأخرجها مما هي فيه من بؤس وأصرف لها من مالي ما يكفيها معيشتها ويحفظ لها كرامتها ويغنيها هي ومن معها، وأنا طبعا إن فلعت ذلك فسوف أكون بلا شك بطلا في نظر الحاضرين والغائبين وسوف تسعد الفتاة سعادة لا يمكن أن توصف، لكنني لأجل هذه الأسباب نفسها لم أفعل، لم أمد لها شيئا من جيبي، بل أنني فعلت ما هو أفظع من ذلك، لقد تجاهلتها تماما فلم ألتفت إليها قط ولم أمنع نفسي من الاستمرار في التلذذ بتناول الطعام وكأنها لا شيء وكأنها لا تساوي أي شيء عندي، أما هي فقد ظلت متسمرة قليلا بجواري لربما آلمها أن يعاملها أحد هكذا لقد انطفأ النشاط والبهجة من وجهها فجأة..، وكأنها كانت تهتم بأن تقول لي شيئا ترد به على هذه الاهانة وهذا الاستخفاف لكن بكمها وإعاقتها كانت لا تسعفها، برهة أخرى وهي تنظر إلي مادة يدها بالمنشور ثم تنظر الي نظرة سريعة في وجوه أصدقائي المحرجة ثم لمت يديها ورحلت الى خارج المطعم، لا أدري سبب خروجها، وسبب غضب جمال من سلوكي رغم أنني لم أزد على أنني تحليت بالأدب والصمت فلم أتحدث إليها ولم أخطئ في حقها، هي أصلا فتاة مسكينة وبكماء، ألن يكون حديثي إليها -لوحدث- ثم عدم تبرعي هو بمثابة إهانة لها وإهانة لي، إهانة لها لأن ذلك يعني أنني لا أقدر قضيتها، وإهانة لي لأنني لا أعاملها بالقدر الذي أنا عليه، أو كما ينبغي أن يعاملها رجل ثري مثلي. وقد حاول جمال ان يلحقها ببعض الدنانير إلا أنني منعته فجلس مغتاظا. أما رامي فقد جلس صامتا صمت من لا يريد أن يقحم نفسه في قضايا شخصية.
إلا أن الحكاية لم تقف عند هذا الحد فبعد ربع ساعة عادت الفتاة مرة أخرى، لم تقترب هذه المرة من طاولتنا لكنها أخذت تتنقل بين الطاولات الأخرى، وأنا أراقبها جيدا من طرف، كان هناك رجل آخر يجلس في الطاولة التي في جوارنا يراقبها بشدة منذ وصولها، لقد كان رجلا في الأربعين أو الخمسين من عمره، بدا عليه الراحة والاكتفاء، كان يحملق بعينيه فيها بكل فضول وتركيز، بداية الأمر ظننت أنه إنما أراد أن يتبرع لها ببعض المال، وحين اقتربت منه وكان يتوسط طاولة فيها أربعة من أصدقائه يدخنون الارجيلة ويلعبون الورق، أشار إليها لتنتبه لما سوف يقوله فانتبهت له، سألها بالاشارة عدة اسئلة عن حالها وأين تسكن وماذا تعمل، كان يفعل بالضبط ما كان ينبغي علي أن أفعله أو ما على الرجل النبيل الثري جدا ان يفعله، كان يتلطف في تناول حديثها المكتوب ومساءلتها اسئلة تنم عن عطف وحب واحترام وتقدير، ثم فجأة طلب منها شيئا فاجأني وفاجأ جميع من في المطعم، حتى أنه فاجأ أصدقاءه وصدمهم لم يكن أحد يتصور منه أن يطلب منها ذلك الأمر، حتى أن امرأة كانت تقعد في طاولة بعيدة قامت من مقعدها غاضبة غير متحملة لفظاعة الموقف وخاطبته بكلمات عاتبة لائمة لكنه لم يكترث وأصر على طلبه.
لقد كان الرجل يطلب منها الزواج، نعم لقد كان يطلب منها الزواج، أشار لها بحركة إدخال الخاتم في الاصبع، وهي فهمت كل شيء، فهمت كل شيء بسرعة، إنها تفهم الإشارات أفضل من أي شخص آخر هناك، لكنها احمرت خجلا واضطربت اضطرابا شديدا وتجمدت في مكانها لم تستطع أن تعبر عن شيء، وكنا جميعا مشدوهين صامتين لقد حل صمت فظيع على المطعم، كل الأعين متجهة الى الفتاة وهي تدير برأسها في الوجوه لا تدري ماذا يحدث، فجأة عادت الحياة والحركة إليها وتصنعت أنها لا تفهم شيئا مما يقول هذا الرجل، واستغل أصدقاؤه الفرصة وحاولوا ثنيه ومحادثته حول الامر، هل فعلا تريد أن تتزوج هذا الفتاة؟ اجابهم بكل ثقة بالايجاب، فقام أحد الندلاء بالتوسط بينهما فأفهمها الموضوع، فردت عليه وهي تمثل أنها لا تفهم الأمر جيدا، أن لها أختا أكبر منها في الجوار وهي أفضل منها في الحديث والأفضل أن تستدعى لتعينها في الفهم، وفعلا جاءت الأخت بعد ٥ دقائق، وهي تشبهها تمام الشبه حتى أن الناظر لا يفرق بينهما، وكانت المفاجأة أن الأخت بكماء أيضا، على كل حال تم شرح الأمر على ما كان، فبان السرور على وجه الأخت وسعدت، وسعدنا نحن أيضا أن هناك زواجا سيتم وأن فتاة مسكينة شجاعة ستتزوج وستحظى بحياة كريمة ويذهب عنها البؤس، إن هذا الرجل أراد أن ينقذ هذه الفتاة من مستنقع الشقاء، وهذا فعل لا يمكن أن يفعله إلا رجل نبيل، أخذت الأخت الكبرى تشرح لأختها الموقف وهي مدركة تماما أن أختها تتغابى وأنها تعلم كل شي، وإنما فقط أرادتها أن تكون في جانبها في مثل هذه الساعة الفاصلة من حياتها أن أختها هذه بمثابة نور لها في حياتها وحياة أخوتها الصغار منذ وفاة والديها، إنها لا تستطيع أن تدبر أمرها بدونها، لقد كانت اختها تخاطبها بلغة الإشارة بكل سرور وجدية، لم يدر بينهما حوار طويل، توقعت أن يكون هناك حوار كثير ونقاش وضحكات إلا أنه لم يحصل شيء من ذلك، لقد قالت الفتاة الكبرى بكل ثقة، أن أختها تعتذر عن الزواج من الرجل، ثم خرجتا من المطعم.
لم يتوقع أحد هذه الأجابة، أنا لم أتوقع ذلك، ولم أفهم سبب رفضها هذا العرض الذي لن يحصل لها طيلة حياتها، هناك قلة نادرة من البلهاء النبلاء أمثال هذا الرجل، لكني مع ذلك كنت سعيدا لأجلها، حقيقة كان اكثر من في المطعم سعيدا لهذه النهاية، لم نكن ندري ماذا سوف يحصل لو أنها وافقت.. .
حتى الرجل نفسه بدا وكأن شيئا انزاح من صدره، فلم يعقب خلفها.. . بالنسبة له فقد حاز الحسنيين. بالنسبة لي هذا الموقف فيه كثير من العبر التي تحتاج منا الى تفصيل وتمحيص .. في تلك الليلة عدنا الى الفندق حملنا أغراضنا وابتعدنا عن الأردن وعدنا الى مسقط .

جمال النوفلي