[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
لا يخفي المراقبون الأميركان حقيقة لم تعد خافية على العالم بأسره، ومفادها أن الإرهاب لم يزل يتقدم في الحرب الكونية ضده، بينما يتقهقر العالم الغربي بسرعة مذهلة. ودليل ذلك أية مقارنة، مهما كانت بسيطة وعرضية، بين قوة الإرهاب قبل 11 سبتمبر 2001 وقوته اليوم. البون واضح للعيان، بغض النظر عن العواطف وتعابير التملق والرياء. الإرهاب أقوى اليوم مما سبق، وهو يحرز انتصارات على الأرض: بالأمس، كان الإرهاب محدودًا بعمليات تخريبية، نوع "اضرب واهرب"، أما اليوم، وحسب معطيات "داعش" في العراق وسوريا فهو بدرجة من القوة والقدرة على الإمساك بالأرض، إنه أطلق لذاته حرية إعلان نفسه دولة. ومن يدري، فقد يقدم الإرهابيون طلبًا للانضمام للأمم المتحدة يوما ما.
وإذا كان الإرهاب يتقدم، فإنه يذكر المؤرخ الحذق "بالنظرية الدورية" في التاريخ، أي عندما يقدم التاريخ أنماط تكرار لا يمكن لأحد أن يوقفها أو يقلب اتجاهها: في العصر الوسيط المبكر كانت القبائل الجرمانية الشمالية البربرية فوق روما، عاصمة أعظم الإمبراطوريات، حتى هدمتها وأحرقتها وسادت البربرية على الحضارة الرومانية. ثم حدث ذات الشيء في أواسط العصر الوسيط، إذ كان التتر المغول فوق عاصمة الحضارة العالمية آنذاك، بغداد، فلم يتركوها إلا بعد الاستباحة والحرق والقتل حتى انقلب لون ماء دجلة أحمر، من شدة سفك الدماء.
أما الآن فلم تزل عاصمة الحضارة الرأسمالية، نيويورك، تئن من ضربات الإرهاب البربرية في 11 سبتمبر، بينما هي ترقب من بعيد كيف يقضم الإرهاب من جرف حضارتها وسطوتها عبر أكبر عملية استغفال واستدراج في تاريخ النوع الآدمي، وهي عملية ما سمي بـ"الربيع العربي" ذلك الربيع الذي خدم أكثف عباءة لتغطية تسلل الإرهاب نحو السلطة والهيمنة في دول الشرق الأوسط خاصة. وإذا بالربيع العربي يميط اللثام عن وجهه الحقيقي المروع على حين غرة.
ربما يتوجب على المرء أن يعيد تورخة العقود الأخيرة، كي يلاحظ كيف استدرج الإرهاب أميركا إلى حروب وارتطامات عسكرية ذهبت هباء كعصف مأكول: ضربت القوة الأميركية الجبارة هنا وهناك، بدعوى القضاء على الإرهاب. فكان الإرهاب يراقص لكمات واشنطن كما كان محمد علي كلاي يتجنب لكمات خصومه على الحلبة راقصًا لتذهب لكماتهم سدى دون أن تمسه.
ضربت واشنطن بكل قوتها في العراق، ولكن هل قضت على الحركات الإرهابية، أم أنها زادت ونمت عن طريق صناعة عدو مباشر له، عدو قادر على الاستقطاب والتعبئة، درجة أن أجزاء كبيرة من العراق، شمال بغداد، هو الآن تحت سيطرة ما يسمى بـ"داعش"، وهي أخطر وأبشع أشكال منظمات إرهاب حركات الإسلاميين الجدد.
واشنطن اليوم في حيرة من أمرها درجة أنها لا تدري هل تسلح بغداد؟ أم تسلح الميليشيات الكردية، "البيشمرجة"، كي تنقلب على بغداد في وقت لاحق؟ الكرد يرحبون بهذا التسليح ويمتطون ضعف بغداد، لنقل العاصمة منها إلى أربيل حيث يتوفر الأمان وتتاح الخدمات بالدرجة الكافية لأن يفضل الوزراء الأوروبيون والأميركان النزول في أربيل قبل بغداد، أو ربما يذهبون إلى بغداد كإسقاط فرض، تجنبًا للشكوى والتباكي.
ولا ندري على نحو الدقة، هل قرر الغرب اعتماد كردستان العراق خطًّا أولًا لمواجهة الإرهاب، في غياهب غفلة عجيبة غريبة من بغداد التي لم يعد يهمها تسليح الكرد الذين ابتلعوا كركوك بكل نهم وشهية وهم يعبون السوائل المساعدة على الهضم في سبيل ابتلاع المزيد لأنفسهم ولتقديم أربيل للعالم الغربي حليفًا معتمدًا وثقة في حرب الأخير ضد الإرهاب، علمًا أن الأخير يتصرف بمحض مصالحه، فهو لا تهمه أكانت بغداد التاريخية، أم أربيل التاريخية، عاصمة!