لفت انتباهي الأسبوع الماضي خبر لم يهتم به أحد، طبعا لأنه لا يتسق وسياسات أغلب منافذ الإعلام العالمية وتوابعها الإقليمية. فقد طلبت السلطات السورية من هيئات الإغاثة زيادة المخصصات ـ التي تدخل سوريا من عدة منافذ طبقا لقرار من مجلس الأمن ـ لمناطق في محافظة الحسكة شمال شرق البلاد بعدما نزح إليها ألف أسرة من العراق هربا من بطش المتطرفين من تنظيم الدولة الإسلامية. وآوى السوريون في تلك المنطقة، التي لا تخضع لسيطرة مسلحي المعارضة المتشددين، هؤلاء النازحين العراقيين في مدارس المنطقة. لم يهتم الإعلام بالخبر لأنهم عراقيون يأويهم سوريون ليسوا من المعارضين الذين يدعمهم كل العالم، غربه وعربه. ذاك رغم أن الإعلام أسهب في وصف وتصوير اللاجئين السوريين في مدارس بلبنان، وكذلك النازحين في أماكن أخرى من العالم الذين يأوون إلى المدارس.
وربما كان أبرز دور للمدارس في الحروب هو ما شاهدناه في العدوان الإسرائيلي على غزة على مدى نحو شهر، ليس فقط في لجوء المدنيين الأبرياء إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) ولكن أيضا استهداف القصف العنصري الإسرائيلي لمدارس غزة. صحيح أن الأونروا أكدت ـ في حادثة واحدة ـ وجود 20 صاروخا لحماس في إحدى مدارسها، لكن مدارس الأونروا وغيرها في الأغلب الأعم كانت مجرد مأوى للأسر التي يقصف الاحتلال الإسرائيلي بيوتهم وأحياءهم، وحتى مخيماتهم. والحقيقة أن ما أعاد إلى ذهني صور المدارس كمأوى للنازحين من الحروب كان ما جرى في قطاع غزة أكثر من أي مكان آخر استضافت فيه المدارس عائلات هجرت بيوتها وبلداتها وقراها ـ وربما أوطانها ـ هربا من نيران حروب المنطقة التي تتسع رقعتها يوم بعد يوم.
تذكرت ما كان في مصر قبل عقود، منذ العدوان الثلاثي (إسرائيل وبريطانيا وفرنسا) على مصر عام 1956 حين هجرت عائلات كثيرة من محافظات القناة المنطقة إلى القاهرة ومحافظات الدلتا. وأغلبهم آوتهم مدارس حتى يجدوا مسكنا أو يعودوا إلى مناطقهم. وتكرر ذلك في حرب عام 1967 ليزداد عدد المدارس التي يأوي إليها أهل منطقة القناة وما حولها. صحيح أني لم أشهد عمليات النزوح تلك في وقتها بوعي كامل، لكني رأيت تلك الأسر التي لم تغادر المدارس لفترات طويلة لأنها لم تجد مسكنا أو لم تتمكن من العودة إلى موطنها الأصلي. أما لماذا المدارس لإيواء النازحين؟ فالإجابة البسيطة المباشرة هي أنها المباني الأكثر قدرة على استيعاب عدد أكبر من الناس في وقت قياسي، فهي مقسمة إلى فصول يمكن لكل فصل أن يضم أسرة أو أكثر وبها خدمات مشتركة لعدد كبير من الناس. ثم الأهم أنها تخلو من التلاميذ لبضعة أشهر في العام، فتكون متوفرة للاستخدام الطارئ أكثر من أي مبنى حكومي آخر في أوقات الصيف والعطلات الأخرى، وليلحق تلاميذ المدارس المستغلة بمدارس أخرى. ولم يعد تكدس الفصول مشكلة إذا كان الوطن كله يواجه حالة طوارئ من حروب أو كوارث.
رغم أن المدارس تحل مشكلة طارئة لإيواء النازحين من ويلات الحروب ـ وأحيانا الكوارث الطبيعية أو من صنع الإنسان ـ إلا أنها تخلق مشاكل أخرى. وإذا استثنينا السنوات الأخيرة التي شهدت فيها عدة دول في المنطقة حروبا داخلية وأعمال عنف متواصلة، فإن أغلب المهجرين والنازحين في بلدان المنطقة في نصف القرن الأخير وأكثر كان السبب في مأساتهم عدوان إسرائيلي على بلد عربي أو أكثر. وارتبطت حياة النازحين في المدارس بالحروب الإسرائيلية بدرجة أو بأخرى، إلى أن جاءت السنوات الأخيرة بحروب داخلية وعنف محلي لجماعات متطرفة وتنظيمات دينية/سياسية ملأت مدارس أخرى بنازحين من مواطنهم. وبالأخذ في الاعتبار حروب إسرائيل، فقد مثلت معيشة الناس في المدارس نوعا من "الهزيمة المجتمعية" ـ إذا صح التعبير ـ ذلك لأن المجتمعات المعنية لم تتمكن من إعادة هؤلاء النازحين إلى بيوتهم بسبب عدوان إسرائيل أو خطره المستمر ولا تمكنت من توفير مساكن مناسبة لهم.
هذه التبعة السلبية الأولى للعيش في المدارس في أوقات الحروب، وهناك غيرها الكثير مما لا يبدو مهما للوهلة الأولى لكنه يترك آثارا بعيدة المدى على أجيال بكاملها. أهم تلك الآثار، وربما أخطرها، هو شعور من يضطر للعيش في مدرسة (في ظروف صعبة ومزرية في أغلب الأحيان) تجاه مجتمعه ودولته، وليس فقط ضد عدو وطنه الذي تسبب في تهجيره. ويتعزز هذا الشعور السلبي مع مدة إقامة النازحين في المدارس، وللأسف يضعف من روح الوطنية إلى حد ما. يسهم في ذلك أيضا أن تلك المدارس تكون في أحياء سكنية، وهناك من يعيشون حولها وبالقرب منها وربما لا يتسم تصرف بعضهم بما يتطلبه التعاضد الإنساني في ظل ظروف الحروب والكوارث. وكم من قصص (أعرف بعضها بشكل مباشر) تعكس الآثار السلبية للعلاقة بين أبناء الجماعة البشرية الواحدة، وليس فقط أبناء الوطن الواحد. في النهاية، تسهم المدارس وغيرها من المنشآت المماثلة، في حل طارئ لمشاكل الحروب والكوارث لكن الخطر أن يتحول الحل الطارئ إلى حل دائم إما لاستمرار الحروب أو ضعف الامكانيات أو كليهما معا.

د. أيمن مصطفى كاتب عربي ـ لندن