[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا[/author]
وظَّفوا "المصالحة" لوأد "التهدئة"، والتمكين لدفن "المصالحة"، وكله بذريعة مواجهة "صفقة القرن"، مع حرص أجهزتهم الأمنية المعلن على التواصل مع أصحاب هذه الصفقة ومنفّذيها دون إعلانها، ذلك عبر التنسيق المعروف والمعلن مع السي آي إيه والشاباك، والحصول مباشرةً على الدعم المالي المعلن بعد قرار قطع الإدارة الأميركية مساعداتها عن السلطة، والإشادات المتكررة من المؤسسات الأمنية الاحتلالية!

كتب لي عديدون في الآونة الأخيرة حول رأيي وتوقُّعاتي بشأن موضوع بعينه، وهو إلى أين تتجه الأمور في قطاع غزة؟ هؤلاء في أغلبهم كانوا من هناك، أي ممن يكابدون ظروفا فاقت القدرة البشرية على التحمُّل، ويجدون أنفسهم وجها لوجه في مواجهة أمرين: خطورة المنعطف التصفوي المفضوح والمعنون بأحجية "صفقة القرن"، وهول التدهور الشامل في الظروف الحياتية لمليوني فلسطيني في ظل فظاعة حصار إبادي لا يرحم، والأفدح أنه مديد، والأوجع أنه مزدوج يشارك فيه العدو والشقيق، وبرعاية دولية ومساندة اوسلوية.
ورغم إحساسي بمدى وجع الباحثين عن نقطة ضوء في ظلمة الظروف التآمرية المحيطة بهم وبالقضية أساسا، لم أجد ثمة ما أجيبهم به، والأسئلة كلها تتمحور حول مقولتي التهدئة والمصالحة، سوى مصارحتهم بما ظللت أكرره في مقالات عديدة ومنذ أمد، بأن ليس لغزة الصمود والمقاومة من خيار سوى التمسُّك ببندقيتها ومواصلة مسيرات العودة. ذلك لأن جبهة محاصريها لم ولن يتركوا لها خيارا آخر. اللغو التهدوي الذي سحب الآن من التداول، واللغط التصالحي الذي يترنح آيلا لذات مصائر محطاته التكاذبية السالفة، أديرا مع غزة بخبث ولهدفين: مباشر، هو تفادي تداعيات مسيرة العودة ومبتكراتها النضالية المقلقة للعدو، ومنع انفجار المعتقل الكبير المحاصر من الانفجار في وجه محاصريه. وغير مباشر، هو التمهيد لإسقاط بندقية المقاومة، وبغض النظر عن مسمياتها الفصائلية، من يدها.
كل ما خلا ذلك مما يعلك من ذرائع، ومن بينها مقولة "الانقسام"، تساق خدمةً لهذ الحصار، وتأتي في سياق تضييق الخناق على العناد الغزّي المقاوم. وافتح هنا قوسين لأقول، أنا لم أقل يوما إن هذا الانقسام غير قائم وغير مؤذٍ ومرفوض، ولكني لطالما قلت إنه موضوعي كان وسيبقى كذلك، وهذا قلته حتى قبل أن يستفحل وقبل أن يُفرض الحصار، ذلك كان انطلاقا من زاوية نظرتي التي كانت وما زالت تقول باستحالة التقاء نقيضين في الساحة الوطنية، واحدها مقاوم، أو حتى يرفع شعار المقاومة، مستندا إلى إرادة شعب مناضل أسطوري الصمود والتضحية من أجل وطن لا يرضى عن العودة لكامله بديلا، وتأتي أجياله اللاحقة أشد بأسا وإصرارا من سابقاتها، وآخر مساوم ينادي بالتعايش مع عدوه ويتخادم معه أمنيا، بعد أن تنازل له عن ثلاثة أرباع الوطن، ويراهن على استدرار أريحية "الشرعية الدولية"، التي شرَّعت الكيان الاستعماري الغاصب وما ترتب على النكبة، في عونه ليتكرم عليه عدوه فيعطيه ما تيسر من الربع الباقي، والذي بات بفضل من أوسلو أراضي متنازعا عليها...هؤلاء قبل "صفقة القرن" كانوا يتوهمون دويلة ولو أقل شأنا من ميكرونيزيا، والآن أفضل ما يُعرض عليهم لا يعدو نثارا لمحميات هنود حمر.
وانطلاقا من هذا الفهم، قلت مبكرا، ومن حينه، إن اللعب في ملعب أوسلو سيكون هو النتيجة الموضوعية للدخول في لعبة الانتخابات، ولن يكون إلا تحت سقفها، ومهما كانت مبرراته، فهو خطيئة استراتيجية من شأنها أن تضع لاعبها تحت طائلة استحقاق الجمع المحال بين متحارجتي السلطة في كنف احتلال ومقاومته، الأمر الذي يتم الآن دفع ثمنه في غزة.
بقدرة قادر لم يعد أحد من الوسطاء يتحدث عن "التهدئة"، وخبا حماسهم الذي تحوَّل إلى حديث "المصالحة"، وعلت في الآونة الأخيرة نغمة "التمكين"، وتعالت اشتراطات سلطة "أوسلوستان" التصالحية بالغةً حدود الاستحالة، وتم إبلاغ جوتيرس، الأمين العم للأمم المتحدة بوجوب إنهاء مهمة المبعوث الدولي ملادينوف لمساعيه التهدوية. افشلوا تهدئة غزة في أمس الحاجة إليها فحالوا دونها وفرض تهدئتها على عدوها بشروط مقاومتها مستثمرةً إبداعات مسيرات العودة النضالية ورعب العدو من انفجار الأوضاع فيها بذريعة "المصالحة".
وظَّفوا "المصالحة" لوأد "التهدئة"، والتمكين لدفن "المصالحة"، وكله بذريعة مواجهة "صفقة القرن"، مع حرص أجهزتهم الأمنية المعلن على التواصل مع أصحاب هذه الصفقة ومنفّذيها دون إعلانها، ذلك عبر التنسيق المعروف والمعلن مع السي آي إيه والشاباك، والحصول مباشرةً على الدعم المالي المعلن بعد قرار قطع الإدارة الأميركية مساعداتها عن السلطة، والإشادات المتكررة من المؤسسات الأمنية الاحتلالية! 
قال رئيس السلطة: "لن أعطي شرعية لأي تهدئة مباشرة مع حماس، والمصالحة أولا"، ومن بعده، ونقلا عنه، وعلى لسانه، قال حسين الشيخ عضو مركزية فتح السلطة: إنه و"على قطع رقابنا هذا المشروع (التهدئة) لن يمر"، ورفض وفدهم الذاهب للقاهرة حاملا معه ردهم على الورقة المصرية للمصالحة الالتقاء بوفد حماس في القاهرة، وفي الرد أعادوا اشتراطات التمكين الكامل وزادوه وضوحا: و"تمكُّن السلطة من السيطرة على سلاح الفصائل"!
وعليه، جمَّد الوسطاء "مسار التهدئة" حتى إشعار آخر بطلب من رام الله إلى أن ترضخ غزة لاشتراطاتها، وإلا، قطعت ما لم يقطع من رواتب موظفيها...وأوقفت "التنسيق الأمني" مع الاحتلال، هذا الذي لم توقفه بعد كل قرارات ترامب التصفوية!!! 
...وبعد، باتت "المصالحة" الأبعد من أي وقت لم تكن فيه بالقريبة...بمعنى هل لغزة، ولفلسطين، سوى القبض على أخمس بندقيتها، ومواصلة مسيرات العودة!