[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
إن التنسيق الروسي ـ الإسرائيلي في سوريا استراتيجي، ولن يتأثر بحادث الإليوشن ٢٠ بصورة تزعزعه.. لكن المزيد من الضوابط ستتخذ لحسن تنفيذه. إن علاقة روسيا بإسرائيل، وركائز تلك العلاقة أقوى من علاقتها بسوريا، وهناك حسابات كثيرة تُجرَى، وأمور تؤخذ بالاعتبار، قبل أن يقترب أي من الطرفين من نقطة اللاعودة بينهما.. وهذا بتقديري لن يتم.. "وفركة الأذن الروسية لنتنياهو لن تتعدى ترك بصمة حمراء على شحمتها لوقت قصير.

بعد مئتي عدوان إسرائيلي سافر ووقح على سوريا، بمعرفة روسيا، وبتنسيق مع قواتها في قاعدة حميميم، أعلن الكرملين "إن العدوان على منطقة اللاذقية، هو "خرقٌ لسيادة سوريا"؟!.. ولا شك في أن ذلك جاء بسبب إسقاط طائرة إليوشين ٢٠ روسية في المتوسط مقابل الساحل السوري يوم الاثنين ١٧/٩/٢٠١٨، ومقتل خمسة عشر عسكريا روسيا، بين ضابط وجندي، كانوا على متنها.. ذاك الحادث الذي قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه جاء نتيجة "سلسلة من الظروف العَرَضيّة المأساوية"، وعزته وزارة الخارجية الروسية، في وقت لاحق، إلى تصرف غير مهني، حيث قالت الناطقة باسمها ماريا زاخاروفا، يوم الخميس ٢٠/٩/٢٠١٨ ".. إن الطيارين الإسرائيليين الذين سببت تصرفاتُهم بوقوع خطر وتحطم طائرتنا.. تصرفوا بطريقة غير مهنية، على أقل تقدير.. وإنه من المُخجل الاختباء وراء ظهر أولئك الذين يؤدون وظيفتهم بضمان سلامتك، وليس بإمكانهم تجنب الرصاصة التي لم توجه إليهم".. ومن المهم جدا التوقف عند هذه العبارات المَدروسة، لا سيما قولها: "تصرفوا بطريقة غير مِهنيّة"، و"من المخجل الاختباء وراء ظهر أولئك الذين وظيفتهم بضمان سلامتك.."، لما لها من أبعاد وخلفيات ودِلالات. وتلك تدل على وقائع حيث أحاطت طائرات F 16 الإسرائيلية الأربع المهاجة، بالطائرة الروسية، فأصيبت الروسية وهي الأقل سرعة.
ومن المعروف أن هناك اتفاق تنسيق بين الطرفين الروسي والإسرائيلي يحكم تحركهما وعملهما في الأجواء السورية، وهو يتضمن "موافقة كل طرف على عدم اعتراض الاتصالات اللاسلكية أو أنظمة التتبع بالرادار الخاصة بالطرف الآخر ـ جانب كهرو مغناطيسي ـ وابتكار سُبل تعرف كل منهما على قوات الآخر، قبل أي مواجهة غير مقصودة، في أتون الصراع".. وقد أشار جيش كيان الإرهاب والعدوان الإسرائيلي إلى ذلك التنسيق الذي نص عليه الاتفاق، في بيان صدر بعد إسقاط الطائرة الروسية، جاء فيه: ".. إن الجيشين الإسرائيلي والروسي يعملان بنظام لتفادي الصدامات، بموجب اتفاق بين قادة البلدين أثبت فعاليته مرات عدة في السنوات الأخيرة، وتم تفعيل هذا الاتفاق الليلة الماضية أيضا".
وهذا هو العدوان رقم ٢٠١ منذ توقيع الاتفاق، وقد وقع على بعد ٦ كم من قاعدة حميميم، وفي منطقة محميَّة من روسيا، وتهمها بصورة خاصة، نظرا لوجود قاعدتين عسكريتين استراتيجيتين روسيتين فيها: القاعدة الجوية في اللاذقية، "حميميم"، والقاعدة البحرية في "طرطوس". ولم يحدث أبدا أن أبدت روسيا اعتراضا من أي نوع، أو حتى اهتماما يذكر، حين كان الأمر يتعلق بمئتي عدوان إسرائيلي سابق، طال مواقع أخرى في سوريا، بما في ذلك العاصمة دمشق، لأن ذلك يتم عبر تنسيق محكَم. ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن ما وقع للطائرة العسكرية الروسية كان نتيجة عدم التنسيق الروسي ـ الإسرائيلي الدقيق في هذا الحادث، "العدوان"، إذ إن "إسرائيل" لم تبلغ روسيا بعدوانها على اللاذقية إلا قبل دقيقة واحدة أو أقل من وقوعه.. الأمر الذي حال دون اتخاذ الإجراءات المُتَّفق عليها، وتسبب بسقوط الطائرة الروسية بنيران سورية صديقة، كانت تتصدى للطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية.
أمَّا كيان الإرهاب والعدوان "إسرائيل" التي أوفدت وفدا إلى موسكو برئاسة قائد سلاح الطيران، لمعالجة الموضوع، فقد قالت في تصريح لجيش القتل إنها:"تحمّل نظام الأسد المسؤولية الكاملة عن الحادث" و".. إنه عندما أطلق الجيش السوري الصواريخ التي أصابت الطائرة الروسية، كانت مقاتلات سلاح الجو داخل الأجواء الإسرائيلية.".. ولم تأخذ موسكو بهذا، وطالبت بتشكيل لجنة مشتركة" روسية ـ إسرائيلية للتحقيق في الموضوع.
إن هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها روسيا موقفا اعتراضيا حادا على عدوان إسرائيلي يستهدف سوريا، منذ اتفاق أيلول ٢٠١٥، والسبب إسقاط الإليوشن ٢٠، ومقتل خمسة عشر عسكريا روسيا بين ضابط وجندي، وإلحاق إساءة بشرف الجيش الروسي من جانب الطيران الإسرائيلي، على حد تعبير قائد سلاح الجو الروسي، في أثناء لقائه الصاخب في موسكو، مع قائد سلاح الجو الإسرائيلي والوفد المرافق له، كما ذكرت وكالة إنتر فاكس الروسية.. وقد تبع ذلك غضب من الرئيس بوتين الذي أمر يوم الخميس الماضي، حسب "إنتر فاكس"، بنقل طائرات حربية روسية متطورة جدا إلى قاعدة "حميميم"، و"بإرسال 12 طائرة من طراز سوخوي 35 اس، تكون متفرقة في الجو وليس ضمن سرب واحد، ويكون بين كل طائرة وطائرة 4 كلم، وتحلق فوق الشاطئ الإسرائيلي، على أن تحمل صواريخ كينيتال التي تسقط أهدافها على بعد 2000 كلم.. كما طلب من قائد سلاح البحرية الروسي أن تقترب البوارج البحرية الروسية التي تحمل صواريخ بحر – أرض، من الشاطئ الإسرائيلي إلى مسافة 50 كلم.".. ولم ينجح اتصال ماتيس الأميركي بشويجو الروسي، ولا نتنياهو ببوتين، في منع هذا الاختراق الذي استمر مدة دقيقة و٢٣ ثانية، عبرت خلالها الطائرات الروسية سواحل فلسطين المُحتَلَّة من رأس الناقورة حتى رفح، بسرعة بلغت مرة ونصف من سرعة الصوت، ثم عادت إلى قاعدة حميميم عبر المتوسط، دون أن يعترضها أحد. وحسب "إنتر فاكس" أيضا، أعلنت روسيا أنها ستكون منذ الآن، مسؤولة عن حماية الأجواء السورية في محافظات: "حماة، حلب، اللاذقية، بنياس، طرطوس، وكامل الساحل السوري مع وادي النصارى، وصولا إلى الحدود التركية.
وبهذا الصّدد لا بدَّ من الإشارة إلى الآتي:
١ - إن اتفاق التنسيق المشار إليه، بين روسيا و"إسرائيل"، المُتعلق بالسماح لإسرائيل بحرية التحليق في الأجواء السورية، وتوجيه ضربات ضد أهداف فيها، لمنع وقوع صدام من أي نوع ولأي سبب، بين القوات الروسية والإسرائيلية في أثناء تجوال الطرفين في الأجواء السورية والقيام بعمليات في الأراضي السورية.. أمر لا يمكن تسويغه، أو وضعه في إطار مفهوم، مع وجود التحالف السوري ـ الروسي، ومعرفة روسيا الاتحادية باحتلال "إسرائيل" للجولان السوري، ووقوفها خلف كثير مما جرى ويجري لسوريا لا سيما في الأزمة/الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، وأطماعها غير المَحدودة في المنطقة. ولا يمكن قبول ذلك بذريعة دفاع "إسرائيل عن نفسها"، والسماح لها بانتهاك سيادة هذا البلد، لأن الاتفاق يسمح بذلك.. وإذا كان الهدف هو محاربة إيران، أو إضعافها.. فإن جغرافية إيران معروفة، وعلى من يريد أن يقاتلها أو أن يضعف وجودها هنا أو هناك، أن يواجهها مباشرة.
٢ - إن التنسيق الروسي ـ الإسرائيلي في سوريا استراتيجي، ولن يتأثر بحادث الإليوشن ٢٠ بصورة تزعزعه.. لكن المزيد من الضوابط ستتخذ لحسن تنفيذه. إن علاقة روسيا بإسرائيل، وركائز تلك العلاقة أقوى من علاقتها بسوريا، وهناك حسابات كثيرة تُجرَى، وأمور تؤخذ بالاعتبار، قبل أن يقترب أي من الطرفين من نقطة اللاعودة بينهما.. وهذا بتقديري لن يتم.. "وفركة الأذن الروسية لنتنياهو لن تتعدى ترك بصمة حمراء على شحمتها لوقت قصير. وعلينا أن نتذكر جيدا تفاصيل العلاقات والمواقف والتعاون المُعلَن والخفي، قبل أن يجرنا الوهم إلى تغيير جذري يكون لصالحنا.. ومن المفيد جدا العودة إلى خطابات الرئيس بوتين التي واكبت التدخل في سوريا، وقدمته للشعب الروسي والعالم، لا سيما في الثلث الأخير من عام ٢٠١٥ لنقف على تطلعات ورؤى مستقبلية يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي، والديني بالثقافي، والأمني بالعسكري، والدبلوماسي بالإعلامي.. لكي نستطيع أن نقرأ بعمق، ونفهم بوضوح.. وعلينا ألا نهمل قراءة موقف الكنيسة الأرذوكسية في موسكو، والكلام عن حرب مقدسة، وعن "الطريق إلى الكنيسة الأرذوكسية في القدس".. الأمر الذي يعني الكثير في الحاضر والمستقبل، ويضع الجغرافيا السياسية للعلاقات وكذلك المصالح، والمؤثرات الفاعلة في دائرة الضوء. تعاونا يجعل سوريا ممرا ومقرا للقوى العسكرية الروسية.. ويقرب روسيا من دور في حل الصراع العربي الصهيوني الذي أصبح بوضوح تام "النزاع الفلسطيني الإسرائيلي"، والفرق بين هذا وذاك، في التفاصيل والمجريات والمؤثرات والمآلات كبير وخطير.
٣ - إن التصريح الذي أدلى به الفريق أول ليونيد إيفاشوف، مدير قسم التعاون الدولي العسكري بوزارة الدفاع الروسية سابقا، عبر فضائية روسيا اليوم بتاريخ ١٩/٩/٢٠١٨ حول إسقاط طائرة الاستطلاع الروسية ( إليوشن 20) فوق سوريا، وقال فيه إن تلك جريمة وعدوان إسرائيلي.. كان تصريحا جريئا ومسؤولا يستحق التحية عليه، وقد جاء في سياقه قوله بصراحة "إسرائيل دولة إرهابية"، وهي الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية في ممارسة الإرهاب". وقال إيفاشوف أيضا، والنص له بالحرف: "للأسف في القيادة الروسية خونة يمتثلون لأوامر تل أبيب وليس لبوتين، الأمر الذي يفسر لماذا لم تتسلم سوريا منظومات متطورة مثل اس 300 او اس400".. وإشارته إلى وجود "خيانة" من عسكريين روس موالين لإسرائيل في القيادات الروسية، يجرؤون على عدم تنفيذ الأوامر السياسية، إشارة ذات مدلول وأبعاد وخلفيات وأهمية كبرى.. لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار ما نعرفه من سطوة النظام في روسيا وتحكّمه بالأقوال والأفعال.. لكن ربما كان علينا أن نضع ذلك في نطاق التعبير عن غضب ضباط روس من تعرض زملاء لهم للقتل، وجيشهم للإساءة، ورغبتهم في الرد واستعادة التوازن النفسي بعد الحادث.. وهم يعرفون جيدا أن ذلك لن يؤثر جذريا على التنسيق وعمق العلاقة مع اليهود.
٤ - إن الادعاء الإسرائيلي المستمر بمهاجة إيران في سوريا، يثير أسئلة مشروعة تتعلق بأسباب انعدام الاحتكاك المباشر بين إيران و"إسرائيل"، وانصراف المواجهات إلى مواقع ومراكز عسكرية ومدنية سورية، فيما أصبح يعرَف بمواجهات بالوكالة. ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى حرص "إسرائيل" على عدم إغضاب موسكو أو استفزازها، بسبب وجود علاقات متينة لها مع طهران، ووجود مصالح وتعاون وتحالف بين الطرفين.. فـ"إسرائيل" في هذا العداء لإيران شريك وحليف لدولة عظمى، وربما هي الدولة الأعظم، أعني الولايات المتحدة الأميركية، بزعامة غراندايزر السياسة "ترامب"، وهي دولة تحمل المشروع الصهيوني، والعلم "الإسرائيلي"، وتحارب من يزعج "إسرائيل" بإشارة..
إن وراء هذا أسرارا، وتوافقات سرية، وتوزيع أدوار ومسؤوليات ومهمات، وبرامج استنزاف، وخطط أوسع وأشمل وأكمل من الظاهر والتظاهر.. وهي كلها تستهدف العرب والمسلمين، ويتعاون فيها عليهم أعداؤهم وأصدقاؤهم وأغبياهم وقصار النظر منهم، والمشغولون بالفتن وصغائر الأمور، والغارقون في مستنقعات الوهم، والفساد والإفساد.. حيث يفعل كل ذلك في الأمتين العربية والإسلامية فعل السم الزّعاف، بالجسد الضعيف.. لتبقى المصالح العليا للأطراف الدولية العليا، فوق الجميع، ويخدمها الجميع.. وتبقى السياسة بمنأى عن القيم والأخلاق والمسؤوليات الإنسانية، حيث لا تعترف بها جميعا، ولا توليها أهمية جدية تُذكَر.. وما على الأتباع والضعفاء والضحايا أمثالنا.. في هذه الحالات والمآلات، إلا أن يعرفوا ذلك، ويعرفوا من هم، وماذا يُراد بهم، ويتنبهوا لوضعهم وحاضرهم ومصيرهم، ويلتفتوا إلى أنفسهم التفاتة الواعي الحكيم المنتمي بصدق لأمة وأرض وعقيدة وثقافة وحضارة.