جاء يلتمس مني التوسط لدى شركة من الشركات لتوظيفه. كان قد تجاوز الستين من عمره، تساقطت بعض أسنانه، وهزل جسمه، واستوطنت تجاعيد الشيخوخة محياه. قلت له: أنت تطلب عملا أم تبحث عن عمل! فقال: أنا أطلب عملا. رددت عليه: لو كنت صاحب مؤسسة وجئتني تطلب وظيفة فلن أمنحك وظيفة في مؤسستي! فتساءل معاتبا: لماذا هذا كله؟ فقلت له: كم تساوي في سوق العمل؟ ماذا ستضيف للمؤسسة؟ بكم تقيم خبراتك ومؤهلاتك؟ وهل أنت مهتم بصحتك ومظهرك ومهاراتك بما يرفع معدل الاحتياج اليك في سوق العمل. هناك فرق كبير بين أن تبحث عن وظيفة وبين أن تطلب الوظيفة بصيغة توسل أو تسول. لو جئت تطلب مساعدة فإنك بذلك توقظ إنسانية صاحب العمل وتنشط مفاتيح الشهامة والمروءة، أما إذا كنت تبحث عن وظيفة فإن الأمر سيختلف، لأنك بذلك تعرض نفسك وتروج لقدراتك ومعارفك ومهاراتك، فأنت بذلك تسوق خبراتك وتعرض على صاحب العمل أنك بانضمامك لمؤسسته ستعزز بذلك مكانتها وتضاعف من قدراتها الإنتاجية و تزيد من قيمتها وترفع ايراداها، إن الوظيفة ليست ضمانا اجتماعيا يتفضل به ارباب العمل على أشخاص محتاجين، ولكن الوظيفة هي عبارة عن قيمة معنوية وقيمة إنتاجية تقود إلى إحداث التغيير في واقع القطاعات الإنتاجية وفي حياة المجتمع. إن الوظيفة هي عبارة عن استثمار لقدرات الإنسان ووضعها في خدمة التنمية في مجتمعه. فالوظيفة مسؤولية، وتكاليف وأعباء، يقوم بها شخص كرس حياته لخدمة الآخرين.
تساءل وماذا يمكنني أن أفعل؟
أجبته قائلا: احذر أن تضع نفسك في منزلة المحتاج المسكين، فأنت بذلك تهدر كرامتك، وتخاطب كينونتك بأنك أصبحت عبئا على الحياة، وتشعر نفسك ومن يستمع إلى لهجة توسلك بأنك أصبحت رقما عبئا على المجتمع وموارده. وترسل بذلك رسائل سلبية إلى جيناتك التي تتفاعل مع أفكارك ولغتك المنكسرة، فتتوهم من حيث لا تريد بأن وجودك في المجتمع صار محدودا، وبلا قيمة.
حاول أن تغير صيغة تفكيرك مع ذاتك واسأل نفسك: ماذا يمكنني أن أعمل لو كنت أستطيع؟ ما أجمل أن تسأل نفسك سؤالا بقولك: ماذا أستطيع أن أفعل من أجل الحياة؟ هل ثمة دور يمكنني القيام به؟ ما هي قدراتي وامكانياتي؟ وهل هناك أشخاص في مثل مرحلتي العمرية والصحية مستمرين في العطاء والابداع؟
غادرني بهيئة مختلفة كما لو أنني أيقظت في داخله كائنا آخر، ودعني بقوة، وشكرني على الوقت الذي أمضيته معه. وبعد ثلاث سنين من ذلك الموقف العابر، قابلني رجل مبتسم، سلم علي بحرارة ثم صافحني بقوة كما لو كان يعرفني، وبعد أن أعدت نظرت اليه استعدت ملامحه وتشكلت صورته في عقله، وصرت أمام رجلين؛ أحدهما الذي يقف أمامي الآن، ويبدو اصغر من سنه الحقيقي، يشي جسمه بالصحة والحيوية والتفاؤل، وأما الآخر الذي كان واقفا على يساري؛ فقد تمثلت فيه شخصية (ر) القديمة، الإنسان المهزوم، عاثر الحظ، ذو الحيلة الضعيفة.
وأدركت أن الفرق واضح وجلي. سألته فرحا بما أرى عليه من علامات التغيير الإيجابي: ماذا حدث؟ ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله! فرد بتفاؤل ومرح: لقد توظفت محامي، استعدت امكانياتي ومهاراتي، بمجرد أن غيرت وجهة نظري في نفسي. كنت مهزوما ولكنني صرت منتصرا على ضعفي، لقد أعدت تأهيل نفسي، وبدأت أمارس الرياضة وأهتم بغذائي جيدا، وأحرص على المظهر الأنيق، واكتسبت في غضون سنة واحدة مهارات كثيرة منها التحدث والكتابة باللغة الإنجليزية واستدام الحاسوب، وأكثر ما نفعني هو أن دربت نفسي على التفاؤل والسعادة وشكر الله على النعم. وبعد سنة من برنامج التغيير الذي باشرته، تغير بالفعل كل شيء في حياتي عندما تغيرت نظرتي إلى نفسي. لقد عرض علي صاحب مكتب محاماة مشاركته، فأصبحت محاميا ومديرا للمكتب. إن السر الحقيقي يكمن في الوعي بأنني أستطيع، وبقناعتي أن إدراكي أنني أستطيع يمكن أن يغير جميع أبعاد الشخصية.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية