[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
من بين المفاهيم الخاطئة المتنوعة التي أسهمت على نحو فاعل وطويل الأمد لإطلاق الحركة العكسية الرجوعية التي أبعدت عددًا من دول الشرق الأوسط عن إمكانيات التغلب على أسباب الإعاقة المانعة لتخطي الحاضر الراكد نحو المستقبل الفاعل التقدمي، تتبلور أمامنا الموازاة، الحديثة الظهور والسائدة اليوم للأسف، بين التقدم وبين الدرجات العلمية العليا، بغض النظر عن الحاجة الحقيقية لتلك الدرجات لرفد برنامج تنمية إقتصادية/إجتماعية متوازنة وشاملة، يرامج متحررة من معوقات الرجوعية ومن عوائق التقاليد القديمة المتوارثة. يقدم هذا المفهوم المرتبك والمربك للدرجات الأكاديمية العليا، مؤشرًا أوحد على المحاولات الدؤوبة لحكومات وشعوب الإقليم لمحو البقايا الراسبة من تراث الإمبراطورية العثمانية الثقيل والمثقل بالروح التورانية، تلك الإمبراطورية التي حاولت فرض لغة تركية "عثمانية" على شعوب المنطقة عبر سياسة "تتريك" شاملة. لم يكن الهدف النهائي عصيًّا على الملاحظة بالنسبة للأقوام غير التركية داخل الإمبراطورية، مثل الكرد والأرمن والآشوريين والكلدانيين، وخاصة العرب الذين عرفوا بالاعتداد بلغتهم الآن وإلى الأبد، نظرًا لأن جلّ ثقافتهم لفظية، ولأن المعتقدات الإسلامية تكرس روحيًّا تبريرًا لذلك الاعتزاز. للمرء أن يتذكر أن العربية، حسب المعتقدات الإسلامية، هي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف وسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويؤمن المسلمون أنها لسان أهل الجنة.
أسهمت الروح التورانية (القومية التركية) أداة فاعلة في دمج وضم الأقوام غير التركية ثقافيًّا إلى النسيج العضوي العام لإمبراطورية شابة متماسكة لم تكن تبدو قابلة للتفكك لقرون. لذا جاء رد الفعل عنيفًا من الأقاليم العربية في الإمبراطورية ضد النموذج القومي التركي للتربية، إذ فضل العرب النماذج القومية الأوروبية الوافدة التي كان يشيع لها التبشيريون ويؤيدها بعض أساطين ما يسمى بـ"النهضة"، باعتبار ما لعبوه من أدوار مهمة في خلق وتقوية العواطف القومية، وبعدها يأتي دور الآيديولوجيات القومية العربية التي اعتمدت على رابطة اللغة أداةً ودافعًا، وليس التقليد الديني الذي تحفظه اللغة وتنقله. أما بالنسبة لأصحاب هذه الآيديولوجيات القومية العربية المتأخرين نسبيًّا فقد عدت اللغة العربية العمود الفقري لأمة واحدة يقطن سكانها إقليمًا مهولًا عابرًا للقارات، يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي.
ولكن إضافة على الأساس اللغوي للآفاق المستقبلية للأقوام المتحدثة بالعربية عبر الإقليم، لا ينبغي للمرء أن يتجاهل الحركات الثقافية التي تسبب بها الاندفاع الكولونيالي الأوروبي نحو "خواء القوة" الذي تركته الإمبراطورية العثمانية في سني شيخوختها، أي قبل الحرب العالمية الأولى ثم بعدها. على الرغم من بقاء الثقافة العربية الإسلامية ثقافة مقاومة للنماذج الأوروبية الغربية الوافدة، إلا أن مواقف فكرية جديدة ذات صلة باللغة القومية وباللغات القومية الأوروبية خاصة، راحت تتطور وتشيع بين العرب على نحو سريع نظرًا للتوهم بأن التكنولوجيا الأوروبية هي عين التقدم، ناهيك عن الوهم الأخطر الذي يقرن التقدم باللغات الأوروبية، وهما وهمان قادا إلى الإقلال من شأن العربية في أعين الذين يتكلمونها بوصفها لغة راحت ترمز لكل ما هو تقليدي ورجوعي، تعسفًا. أما النخبة العربية المثقفة غير المتيقنة مما تريد، فقد انقسمت على جماعتين متناقضتين بقدر تعلق الأمر بالتأثير الثقافي الأوربي الوافد. الجماعة الأولى تمثلت بهؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم عنوان "الانغماسيين"، والجماعة الثانية هم هؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم عنوان "الانكماشيين". دعت الجماعة الأولى إلى انتزاع الثقافة المحلية الماضوية على نحو نهائي وحاسم في سبيل احتضان النموذج الأوروبي والجديد بتعامٍ، بينما أظهرت الجماعة الثانية التزامًا ارتداديًّا متعاميًا بالتراث وبكل ما هو موروث. وفي كلتا الحالتين بدا الجميع حالمين عاجزين بسبب الإخفاق في فهم الحاضر واستشراف المستقبل بذكاء كافٍ. كان المفكرون العرب ممزقين عمليًّا، بين معسكر المؤيدين ومعكسر الممانعين بقدر تعلق الأمر بالاستجابة للثقافات الأوروبية الوافدة.