منذ أكثر من عام طردت السلطات الفرنسية إماما عربيا بتهمة الحض على العنصرية وازدراء المرأة خلال خطبه بالمسجد، وذات الشيء فعلته الولايات المتحدة مع أحد الدعاة بمجرد أن منحته سلطات الهجرة حق اللجوء السياسي خطب قائلا: إنما جئنا لنهدم أميركا من الداخل !
وحالات الطرد تعددت خلال السنوات الأخيرة لأئمة تتهمهم السلطات الغربية بأنهم يدعون إلى العنف وتحويل المجتمعات الغربية إلى ديار حرب، لكن الجاليات الإسلامية في أوروبا والولايات المتحد تعاني من نقص في الأئمة والدعاة، في الوقت الذي شددت فيه السلطات هناك من إجراءات منح تأشيرات الدخول لأئمة ودعاة قادمين من دول إسلامية، فما هو الحل؟
وزارة التعليم والبحث العلمي الألمانية أنشأت مركزا للدراسات الإسلامية في مدينة مونستر، وهذا هو المركز الاسلامي الرابع الذي يجري تمويله من قبل الحكومة الألمانية، بهدف تخريج أئمة ومعلمين للدين الإسلامي، وهو هدف بالطبع يلفت الانتباه بشدة، فهل أصبح نشر الدين الاسلامي على سلم أولويات الحكومة الألمانية حتى أنها تشيد مراكز لإعداد أئمة ومعلمين لتدريس العلوم الاسلامية؟
وليست ألمانيا وحدها التي تفعل ذلك، لقد أصبح هذا توجه العديد من الدول الأوروبية، أما السبب فهو شعور تلك الدول أن استيراد دعاة من المجتمعات الاسلامية يمثل خطرا محدقا على الداخل الأوروبي، ولا يخفى على أحد تزايد المخاوف في الشارع الأوروبي مما يرونه موجات تطرف غزت القارة العجوز من خلال توجهات أئمة يبثون التشدد عبر خطبهم في المساجد الأوروبية.
وكثيرة هي المواجهات التي شهدتها السنوات الأخيرة بين أوروبا الرسمية وهؤلاء الأئمة، وأتذكر أنه منذ عدة سنوات طالب بعض الأئمة في فرنسا من أولياء الأمور المسلمين ألا يسمحوا لبناتهم بحضور تلك الحصص الدراسية التي يجري خلالها تدريس التربية الجنسية في المدارس، وقد رد مسئول فرنسي بأن مثل هذه الموضوعات تدرس أيضا في مدارس الدول الإسلامية، ولم يحدث أن قاطعتها الطالبات! والبديل المناسب كما يرى الأوروبيون إنشاء معاهد ومراكز لإعداد أئمة من بين الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية عاشوا وترعرعروا وشربوا من أنهارها الفكرية ويجيدون لغاتها وعلى دراية بقوانينها !
وقد يبدو الأمر من الوهلة الأولى وكأننا إزاء صراع بين تيارين، تيار يمثله شيوخ وأئمة هاجروا من بلدانهم الإسلامية واستقروا في البلدان الأوروبية، وهؤلاء من وجهة نظر بعض الأوروبيين من العلمانيين واليمين المتطرف ممن ينشرون الفزع في الشارع الأوروبي بما يسمى بفوبيا الإسلام، ومحاولة جماعات إسلامية لأسلمة أوروبا، وتيار مضاد ومنظم من قبل الحكومات الأوروبية هدفه من وجهة نظر بعض الدعاة المسلمين أوربة الإسلام، أي منح الإسلام نكهة أوروبا المعاصرة، وبالتالي نزعه عن سياقه الحقيقي.
ورغم حتمية إخضاع التجربة الأوروبية في إعداد الأئمة والدعاة للمراقبة الدقيقة إلا أن النظرة الموضوعية لمسألة الأئمة "المستوردين" تجعلنا لا نبدي حماسا كبيرا لهم، والمعروف أن غالبية الأئمة المهاجرين جاءوا من ريف أوطانهم ربما إلى المهجر الأوروبي مباشرة، أي أنهم أمضوا حياتهم في قرى صغيرة، حيث أوجه الحياة محدودة والتغيير بطيء كما أنهم تلقوا تعليما دينيا محدودا، ولا يجيدون سوى لغة موطنهم الأصلي، وبالتالي هم يشعرون بكثير من التوتر في موطنهم الجديد حيث أوجه الحياة تتعدد وتتنوع، والإيقاع سريع وغير نمطي، إنهم يشعرون بأنهم في خطر بسبب العجز عن التكيف مع البيئة الجديدة، وبدلا من محاولة إيجاد صيغة توافقية وليست تلفيقية تجمع ما بين صحيح الإسلام وقيم المجتمعات التي هاجروا إليها، يدخلون مع هذه المجتمعات في صراع يلبسونه ثوب الدين، فما لا يتفق مع تشكيلهم الثقافي المحدود فهو مناوئ للدين ويشرعون في صياغة خطابهم الديني من هذا المنطلق، كما أن جهلهم بلغة المجتمع الذي هاجروا إليه وقوانينه قد يوقعهم في العديد من المشاكل مما يزيد من كراهيتهم لهذا المجتمع وعداء هذا المجتمع لهم، وكل هذا ينعكس على خطابهم الديني الذي قد يفوح بتطرف وتشدد غير موجودين في صحيح الاسلام، بل يصور لهم خيالهم المحدود أن الغرب كله وظف كل طاقاته التكنولوجية والبشرية والإعلامية للتآمر على الإسلام والمسلمين! حقيقة الأمر مغايرة لهذا تماما، فالتيار الغالب في أوروبا هو العلمانية التي تهدف إلى إبعاد الدين عن التحكم في مقاليد الأمور السياسية وحصرها في علاقة خاصة تربط بين الإنسان وربه، يمارسها طبقا لتوجهات دينه دون أن يلحق هذا ضررا بالآخرين، إلا أن ثمة متطرفين علمانيين يستهدفون كل الأديان وليس الإسلام وحده بممارساتهم العدائية البغيضة، وإذا كان هؤلاء قد أساءوا للإسلام ببضعة أفلام ورسوم كاريكاتورية وكتب فهناك أيضا أفلام وكتب أساءوا فيها للمسيح عليه السلام، ولقد ظهر في أوروبا 150 كتابا يسيء للمسيح، وبالطبع يوجد بين اليهود توراتيون متعصبون وأيضا بين المسيحيين، وهؤلاء يكنون الكراهية للإسلام، لكن هذا حال كل دين، وجود متطرفين بين أتباعه.
وقد أدرك المسلمون في سويسرا هذه الحقائق فطالبوا بدعاة من "صنع سويسري"، أي يجري إعدادهم في معاهد سويسرية، ففي استطلاع أجرته السلطات السويسرية حول مسألة الأئمة أجمع غالبية المسلمين وغير المسلمين على ضرورة إعداد الآئمة في معاهد بسويسرا، وقال أولريخ رودولف الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية بمدينة زيوريخ إن 80% من الذين خضعوا للاستطلاع يؤيدون تعليما إسلاميا أصيلا متوافقا مع السياق السويسري على أيدي أئمة متخرجين هنا وليس بالخارج، وهذا ما ألح عليه ستيفان لاتيون أبرز الخبراء السويسريين في النشاط الإسلامي في أوروبا، حيث يؤكد على حاجة المسلمين هناك إلى مسئولين دينيين أكثر تسلحا بالتكوين الديني للإجابة عن القضايا العملية للحياة اليومية في سويسرا.
رجل الشارع في الغرب عانى أباؤه وأجداده من حربين عالميتين قتل خلالها أكثر من 70 مليون شخص، وهو يبغض الحرب والعنف والتطرف، ويتطلع إلى قيم الحب والتعاطف والتسامح، وبسبب ما يعانيه من أنيميا في المعرفة ووقوعه في شرك ميديا مريبة تشوه الحقائق يظن أن تلك قيم غربية أصيلة، وأن دينا مثل الإسلام لا شيء لديه سوى الكر والفر، هذا ما يفهمه من خطب الآئمة المستوردين ويدعمه الإعلام المشبوه، إنه في حاجة إلى معرفة الحقيقة، والحقيقة أن الإسلام ليس دين عنف، وأنه كرس منذ أكثر من 14 قرنا قيم الحب والتعاطف والتسامح وكل مبادئ حقوق الإنسان التي يظن الغربيون أنها "صنع أوروبا"، وخلال ندوة شرفت بتنظيمها وإدارتها في قاعة مصطفى أمين بدار أخبار اليوم في إطار النشاط الثقافي لصحيفة المسائية قال الدكتور عبد العزيز طاحون رئيس منظمة النصرة العالمية للإسلام: إن المنظمة نفذت حملة إعلامية من خلال فيلم قصير مدته 25 ثانية في دول أوروبية يظهر فيه شاب يساعد عجوز في عبور إشارة المرور وينتهي المشهد بالحديث الشريف "خيركم أنفعكم للناس"، فإذا بملك أسبانيا يسأل عن منظمي الحملة ويعقب قائلا: لأول مرة أعرف أن الإسلام يرتبط بالواقع ويساعد الناس على حل مشاكلهم !
وربما يكون إعداد أئمة من بين الجاليات المسلمة في الغرب وسيلة جيدة لتقديم هذا الوجه الرائع - والذي لا وجه للإسلام غيره - إلى الغربيين، إلا أنه يكون أيضا من الأجدى أن يتم هذا الإعداد بالتعاون مع المؤسسات والمنظمات الدينية في العالم الإسلامي للحيلولة دون وقوع أخطاء أو شطط يسيء لديننا ويكرس الصورة المغلوطة عن المسلمين في المخيلة الغربية.
كما أن ثمة اقتراحا تقدم به بعض المشاركين في ندوة المسائية أظنه يمكن أن يكون فعالا في تكريس الصورة الصحيحة للإسلام ويتعلق المقترح باستحداث ما يمكن تسميته بالملحق أو المستشار الديني في سفارات الدول العربية والإسلامية في الدول الأخرى، يتسم بالاعتدال والقدرة على الحوار وتوصيل الأفكار بالحكمة والموعظة الحسنة، ويكفي أن يقول أي من هؤلاء المستشارين أمام تجمع من غير المسلمين إن إمرأة بغي دخلت الجنة حين أسقت كلبا كاد يقضي عليه الظمأ، وأخرى دخلت النار في هرة حبستها وحالت بينها وبين الطعام. ويسرد حديثي النبي الكريم في هذا الشأن ليثير دهشة وانبهار مستمعيه من هذا الدين الذي ألح منذ أكثر من 1400 سنة ـ ليس على حقوق الإنسان فقط ـ بل أيضا على حقوق الحيوانات، ليدركوا أن الإسلام هو الأصل والأكثر شمولية في الدعوة لقيم الحب والخير والتعاطف والتسامح، حتى مع الحيوان !

محمد القصبي