كل فلاسفة الثقافة يجمعون على أن الفنون بمجملها تنبع من منشأ واحد، ولا غرو أن فنون الأدب والتشكيل تتداخل في عطائها وروعة بيانها منذ أزل قديم، فالشعر والرسم لهما ارتباط داخلي يكمن في طريقة التحاور بين التصوير والإحساس، وفي ذلك يقول الشاعر الإغريقي سيمونيدس (465ق.م) مقولته الشهيرة (الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت) ، وهو هنا يسعى إلى توضيح علاقة جوهرية بين الشعر والرسم أساسها التعبير من خلال الصورة مع اختلاف الأدوات ، وتبلغ العلاقة الفنية والشكلية بين الكتابة والرسم أوجها في النص المجسد أو الأيقونة النصية حيث تتطوّع الأحرف والكلمات وتتسق وتتعالج لتشكل على سطح الورقة الشعرية لوحة بصرية لشيء ما (مزهرية ، مسجد ، طائر ، إنسان ... الخ)، ونظراً لما يتمتع به الخط العربي من مرونة عالية فقد تفانى الخطاطون في التعبير من خلاله واستثمار قابليته للتشكيل بأشكال بديعة وقد ظهرت الأيقونة النصية مبكراً في التراث العربي وكذلك الأيقونة الشعرية كما في المشجرات الأندلسية كأن تكتب القصيدة على شكل شجرة بما يعكس البيئة الشعرية للأندلس، كما تميز الشعراء القرسطيون ببراعتهم الفائقة بالكتابة البصرية التصويرية التي تمخضت عن أشكال وفيرة وطريفة لكتابة القصيدة على شكل دوائر متداخلة ومتقاطعة وأشكال هندسية أخرى تمكن من قراءة النص من زوايا مختلفة لقراءات متنوعة عبر تقنيات أسلوبية بصرية للبديع الشكلي مما جعلتهم رواداً للشعر المُجسَّد. وفي خضم هذا الفضاء الشعري والتشكيلي نقدم واحدةً من أجمل التجارب الفنية في هذا المجال للتشكيلي العُماني عيسى المفرجي الذي أجاد بأسلوبه الفني الثلاثي الأبعاد في تقديم العديد من أفكاره الفنية المملوءة بالأحاسيس الوجدانية والانفعالات النفسية الداخلية، واستطاع أن يخلق للمتلقي ميزة جِدُّ خفية وأكثرُ تعقيداً من إثارة الاحساس أو الوجدان ألا وهي القدرة الكبيرة على إنتاج وخلق شبكة متجانسة ومترابطة من الصور التعبيرية الراقية في العمل الواحد. وقد اخترت له هذا العمل الماثل أمامنا لإظهار جانب بسيط مما يتمتع به هذا الفنان من إمكانات لا محدودة في الإبداع التشكيلي، فالمفرجي يرى بأن الشعر والتشكيل مرتبطان بالإبداع الداخلي لدى الفنان ولا ينفصلان أبداً بل طريقة التعبير في كلا المجالين تعبر عن القرب بينهما، فقدم في عمله (لقاء وقصيدة) أبيات من رائية الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني (أراك عصي الدمع) وهي من أجمل قصائد هذا الشاعر في العواطف والأحاسيس والانفعالات وفيها يقول (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر ، بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر ، إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر ، تكاد تضيء النار بين جوانحي إذا هي أذكتها الصبابة والفكر). وقد صاغها المفرجي بأسلوب بنائي ملفت من حيث التركيب الشكلي وتكييف التلقي واستثارة التأويل، وفي سياقها يتكامل ويتداخل فن الشعر وفن التشكيل جمالياً ودلالياً ، وأصبح للدلالة رافدان رافد اللغة ورافد الصورة الشكلية، حيث قام الفنان بتقسيم العمل إلى أجزاء هندسية رائعة الاتساق والتداخل تماماً كبنية القصيدة التي بلغت الآفاق بروعة بنائها الشعري فالمساحات الهندسية المفتوحة سمحت للمتلقي بتأمل العمل وما يحويه من تقسيمات متحركة على سطحه بين الهبوط والصعود لتقديم الإيقاع التشكيلي في أجمل أشكاله وأصدق معانيه وقد جمع أجزاء العمل في دائرة مفتوحة الفواصل لتذهب بك في خيال أبعد من الواقع المعاش تماماً كما فعلت قصيدة الحمداني هذه، فمضامين الأبيات لها سبحات تخترق أعماق الوجدان وتفتح صمامات القلوب والأفئدة إلى عوالم لا تعرف لنهايات المكان معنى، فيبدو لي بأن المفرجي قد دخل في قلب الشاعر وشرب من نبع روحه ومن ذات الطاقة المنفتحة على المخيلة والحرية المستعرة في نفسه للتعبير عن هواه، حتى أصبحت هذه الروح مسكونة بالمرئي واللامرئي مخترقة ما حولها من أطياف حارة وباردة، لِتَعبُرَ في هدوء وسكينة هذا الجسد العاني المتقطع روحاً والمُجتَمِعُ شَكلاً. وهكذا الفنون ترتبط بدوائر لا ترتضي بحالة سكونية أبدية ولا تعيش بحركة ذات بعد واحد، وإنما تبقى تُغذِي وتَتَغَذى من ذات اللحظة على وهج وظلال بعضها لتمارس استفزازاتها الجميلة أمام مراياها المتقابلة والمتجاورة، وربما هذا ما يشرح ذهاب المفرجي إلى استخدام عنصر الدائرة في احتواء العمل ليجبرنا على الإنصات لروحه وروح صاحب القصيدة في لقاء وديع بينهما وتأمل صادق في صمتهما العميق، حيث الدهشة الإبداعية واستفزاز حميمي يستدرجنا إلى لذة الحب.

عبد الكريم الميمني
[email protected]