عرض ـ حسام محمود:
يدعو الكاتب الدكتور جابر عصفور في كتابه " نحو ثقافة مغايرة" إلي ضرورة البحث عن ثقافة بديلة تقبل الآخر ، وترفض الفكر الظلامي ، الذي يشيع الإقصاء ، ويرفض الرأي والفكر ومعتقدات الآخر ، وفي هذا المضمار يراهن على دور الثقافة في التحولات الاجتماعية ، وعلى قدرتها في دعم أية تنمية صناعية أو اقتصادية . ولعل مشايخ الإصلاح حملوا لواء التغيير الثقافي منذ طليعة العهود العربية فبرز الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده في حين تصدى المؤرخون لقضايا التنوع الخلاق من منطلق الحركة الأدبية وفي ضوء الدولة المدنية.
إشعاع الثقافة
نحن في حاجة إلى ثقافة مغايرة، ينطلق هذا المبدأ من الإيمان بالدور الحيوي الذي تلعبه الثقافة في المجتمع. إن الثقافة أساس التنمية، في كل جوانبها، كما أكد تقرير اليونسكو الذي نشر في كتاب بعنوان التنوع البشري الخلاق. وقد عاش العالم طويلاً تحت وهم أن الاقتصاد أساس التنمية، وقيل قبل ذلك أن الصناعة أساس التنمية ، وقيل بعد ذلك أن العلم هو الأساس للتقدم في كل شيء . وقد أثبتت التجارب أن هذه الأقوال لا محل لها من الإعراب عن الواقع لأنها لم تؤد إلى التقدم المنشود في كل مرة اعتمدت عليها الدول النامية أو المتقدمة بلا فارق كبير . فلقد أثبتت تجارب الأمم أن الفراغ الثقافي هو سر التخلف والظلام، وأن الثقافة هي التي تدعم أي تنمية صناعية كانت أو اقتصادية أو حتى نهضة علمية. إن الثقافة هي ركيزة وبذرة التقدم والقوة المحركة له في كل مجال ، ابتداء من السياسة وليس انتهاء ببناء بنية تحتية قوية وكافية ينهض على أساسها ازدهار العلم والتكنولوجيا . فالتقدم التقني بدون ثقافة علمية يعني فقدان مضمون الحضارة التكنولوجية. ولعل الغرب يعاني حاليا من البحث عن الذات بعد أن فقد ثقافته تحت وطأة العولمة السياسية والاقتصادية، وهذا هو ثمن التقدم بلا ثقافة ، ويبدو أن الثقافة المتهوسة بالماضي تلجأ عادة إلي نغمة اللعب علي أوتار أطروحات انغلاقية تدخل الدين والحضارات القديمة في صورة البحث عن الذات ، وعدم الابتعاد عن القديم للواقع والمستقبل . ويمتد أمر العداء للآخر إلى الثقافات الأجنبية التي تتحول إلي مصدر خطر داهم خصوصا حينما تقترن بالغزو العسكري ، من ثم التبعية الاقتصادية التي تتحول إلى تباعد فكري. ولا تميز الثقافة الماضية التقليدية بين أوجه الآخر المستعمر الغازي ونظيره المتقدم الذي يمكن أن نفيد من علمه ونأخذ عنه أخذ الواثق من قدرته على المساءلة وإعادة الإنتاج.
ثقافة العصر
وعلى النقيض من ذلك ثقافة المستقبل، فالثقافة المفتوحة واثقة من قدرتها الخلاقة على الإضافة، متطلعة دائماً إلى مستقبلها بما لا يقلل، أبداً، من اعتزازها باللحظات والإنجازات المضيئة في ماضيها أو تراثها. وهي ثقافة تتسلح بالعلم وتؤمن بالتجريب إيمانا بالعقل والتفكير العلمي جنبا إلى جنب حق الاختلاف، وضرورة التنوع والتعدد في كل شيء بوصفهما علامتي غنى وثراء في المجتمع وللمجتمع ، ولم تجد أحدا يحاكم علي فكرة أو مراقبة لإبداع ، فكل شيء مفتوح في هذه الثقافة التي تزدهر بالحرية ، وتؤدي إلي تسريع عجلة التقدم في مجتمعها ، ولا تكف عن دفعها في أفق إبداعها إلي مالا حد له أو نهاية في الإضافة الخلاقة لثقافات التقدم التي تؤمن بوحدة الإنسانية ، دون أن تنكر قط لخصوصية كل ثقافة والطبيعة النوعية المغايرة لكل حضارة، في مدى التفاعل والتعاون والاعتماد المتبادل بين الحضارات والثقافات علي امتداد الكرة الأرضية. فالثقافة الغربية تتطلع دائما لرسم مستقبل أكثر إشراقا يقوم بمعايير الحضارة علي صناعة الذات من منطلق انجازات الماضي والحاضر. والثقافة عند الآسيويين تقوم على كيفية مواءمة المعطيات الحضارية لمبادئ وقيم وتفكير الشعوب. ومن المفيد بين الحين والحين أن يتأمل المفكر العربي متغيرات الثقافة خصوصا في لحظات التحول التي تتغير بها العلاقات والمفاهيم ، وتتكاثر العوامل التي تنقل الثقافة من حال إلي حال ، أو من واقع بعينه إلي واقع مغاير ، فتدخل زمنا جديدا تستجيب فيه الثقافة إلي متغيرات واقعها الذاتي أو المحلي من ناحية أولي ، ومتغيرات علاقتها بالعالم المحيط بها أو المؤثر فيها من ناحية مقابلة . ونحن نعيش في لحظة زمنية تبعث علي إعادة طرح سؤال التغير، وسؤال المستقبل بقوة وإلحاح ، فالواقع العربي أكثر هوانا من ذي قبل ، والأرض العربية تنوء بالمشكلات والقلاقل السياسية، وبعض الأنظمة العربية الحاكمة تزداد قبحا حتى في محاولة تجميلها، ولا تتعلم من دروس التاريخ ولا تري مصيرها في مرآة نظام مستقبلي. والمثقف العربي تائه سابح في بحر القلاقل والمشكلات يبحث عن طوق نجاة يصله لشاطئ التحديث الفكري والتطور الحضاري والتنمية المجتمعية، ولا ينفصل الإيمان بدور الثقافة في التنمية الشاملة للمجتمع ، والقضاء علي مشكلاته برؤية الأمر الذي يترتب عليه أن نستبدل تقاليد الماضي الجامد بإبداع المستقبل المتحرك ، وتحرر القدرات الابتكارية للمواطن علي النحو الذي يفرض إعادة النظر في الإستراتيجية الثقافية والإعلامية التعليمية القائمة . ولم يتحرر ذلك إلا بالتحرر من الماضي الجامد .
تحرر فكري
يقصد الكاتب بالتحرر الثقافي حرية العقول في البحث عن الفكر المستنير بين ملكات الإنسان ، وذلك لكي تتبين الصالح الذي يمكن أن يفيد في طريق المستقبل الواعد ، والطالح الذي يدعم ذلك تجاهل التراث كما يتوهم البعض ، وإنما تحويله بفعل المساءلة الخلاقة إلى قوة فاعلة في صناعة المستقبل . إن إتاحة الحرية للمواطن في الاختيار في ظل تنشئة ثقافية عقلانية أو ، تنشئة اجتماعية سمحة تساعد علي الاختيار الموجب الذي يدفع بذلك المواطن إلي الإسهام الإبداعي في الحياة المتطلعة إلى الأمام ، والمستقبل المرهون بالدولة المدنية مرهون بالعمل علي تطويرها ، والقضاء على جوانبها السلبية المتعلقة بظلم بعض الحكام أو احتكار السلطة علي حساب فئات مهمشة ، فضلا عن أشكال الفساد الفكري التي تغلفها الشهوانية للمال والسلطة ، والتي تنطوي تحت جرائم تتم في الظلام ، ويراها العيان ولا يجرؤون علي تغييرها ، فللأسف المثقفين لا يوجد لديهم سوي أفكار وسلاحهم العقول المستنيرة التي لو استغلت لتغير العالم العربي بل والعالم أجمع . إن صناعة الثقافة الواعية هي الطريق للمستقبل لمحو أمية الفوضويين ، وترويض المجرمين وإصلاح المجتمعات .