لندن، عاصمة الضباب، حيث لا ضباب، هي إحدى أهم المدن العالمية في وقتنا المعاصر للعديد من الأسباب، منها ثقافية علمية تكنولوجية متعلقة بالثقافة الإنجليزية وهيمنة السيادة البريطانية، بما تبقى من أمجاد الإمبراطورية، والمملكة المتحدة كدولة صناعية رائدة في العالم الصناعي المتطور الحديث. ومنها ما هو جغرافي نظرا لوقوع المدينة استراتيجيا في مفصل مهم كملتقى بين الشرق والغرب. وإلى جانب ذلك كله، تجد الكثير من معالم مهد الاكتشافات والاختراعات التي عرفها العالم منذ الثورة الصناعية ولها جذور وأصل متحدر من الحضارة الغربية وتحديدا في المملكة المتحدة وتحديدا في لندن: فهناك خط الصفر في منطقة غرينتش، وهناك أقدم خط لمترو الأنفاق في العالم في لندن، وهناك عموما متاحف الفن والطبيعة والعلوم والصناعة التي تؤرخ لفجر العلم والاكتشاف الذي قادها الكثير من علماء البشرية ومنهم رواد إنجليز وبريطانيون، والذين غيروا مفاهيم العالم القديم وأسسوا للنظريات العلمية والفيزيائية الحديثة ومنهم السير اسحاق نيوتن مثلا.
فمدينة لندن كعاصمة تمتاز عن غيرها من المدن البريطانية بوقوع العديد من المرافق الحيوية بها. فبها تتركز المرافق السياسية كمقر دار الحكم في (10 Downing Street) والذي يقع في (Whitehall) بوسط العاصمة المتفرع من الميدان الشهير (Trafalgar Square)، حيث مقار العديد من الوزارات المهمة التي تقبع خلف النصب التذكارية ومنها نصب الجندي المجهول والذي يتم الاحتفال سنويا أمامه بحضور ملكة بريطانيا وأعضاء الحكومة البريطانية وحكومات الظل والمعارضة بوضع أكاليل الزهور تخليدا لذكرى من فقدوا أرواحهم في الحربين العالميتين. وهناك قصر الملكة إليزابيث الثانية التي تعتبر رأس دول الكومنولث التي خضعت للتاج البريطاني تاريخيا، وهذا القصر (Buckingham Palace) يقع بجانب منتزه رئيسي بلندن هو (St James’ Park) ويشكل مقصدا سياحيا لندنيا ومعلما مهما. ويشكل القصر الملكي بلندن، وهو أحد قصور الملكة حيث أن لها قصورا باسكتلندا، مجمعا معماريا متميزا ويمتد لمساحات شاسعة حيث يتصل بوسط لندن وميدانها الرئيسي عبر بوابة متميزة معماريا ومحور ينتهي بالقصر، فيما يحيط بالقصر من ناحية منتزه (St James’ Park) وساحة ترابية تصل القصر بشارع الحكومة (Whitehall). ومن المشاهد الرائعة التي تعد مغناطيسا سياحيا هو توقيت تغيير الحرس الملكي الذي يتم في هذه الساحة الترابية. وبمقدمة الإصطبلات الملكية التي تحيط بالساحة والمطلة على شارع الحكومة يقف حارس بلباسه التقليدي بالسترة الحمراء والسروال الأسود والطاقية السوداء الضخمة حاملا سيفه ومتسمرا مكانه كالتمثال لا يتحرك ولا يحرك ساكنا مهما حدث. وعادة ما يغتنم السياح الفرصة لالتقاط صورة بجانبه. ومن المعروف أن هذا الحارس ليس مسموحا له الحركة نهائيا أثناء فترة خدمته ووقوفه أمام العامة مهما حدث. وهذا كان يثير فضول بعض السياح للوقوف وقفات استفزازية أمام هذا "التمثال الآدمي" الذي كان عليه الوقوف وقفة متعبة أمام جحافل من السياح القادمين من مختلف أصقاع العالم.
وهناك أبرز معالم لندن السياحية وهي ساعة (Big Ben) الشهيرة ومباني البرلمان البريطاني، وليس الإنجليزي كما يذكر خطأ أحيانا فإنجلترا هي الوحيدة في بريطانيا التي تضم (اسكتلندا، ويلز، أيرلندا، انجلترا) التي ليس لها برلمانها المستقل الخاص، فيما تتمتع بقية مناطق بريطانيا ببرلمانها الخاص، بالإضافة إلى مجلس العموم ومجلس اللوردات البريطاني بلندن. ساعة "بيج بن" تكاد تكون واجهة بريطانيا، وليس انجلترا فقط، السياحية، إذ لا يكاد يخلو ملصقا إعلانيا سياحيا من هذا البرج المربع الذي تعلوه من الجهات الأربع ساعة تضبط عليها ساعات العالم قاطبة. وقد سنحت لي الفرصة في العام 1999 بالصعود لبرج الساعة الذي يحوي بضع مئات من الدرجات على عادة أبراج العصور الوسطى والتي تنتهي بالناقوس الضخم الذي سميت الساعة باسمه. وهناك جدار داخل البرج من الأعلى يجاور الناقوس الضخم يحلو لبعض السياح ومن لاحت له فرصة الصعود أن يسجل أسمه. ومن الجدير ذكره أن المرشد السياحي الذي يرافق أفواج السياح الصاعدة للبرج، وهو رجل انجليزي نحيل، قد سجل في موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية، كأكثر رجل في العالم يصعد عددا من الأدراج يوميا. فلنا أن نتخيل عدد المرات اليومية التي يرافق فيها هذا المرشد السياحي السياح الراغبين باعتلاء برج الساعة الشهير. ولا يسمح اليوم بالصعود لبرج الساعة إلا من قبل الوفود البرلمانية أو الخاصة جدا وبتصاريح مسبقة. وتعقد جلسة البرلمان البريطاني أيام الأربعاء من كل أسبوع وهو موعد أسئلة رئيس الوزراء البريطاني التي تبدأ تمام الثانية عشرة وتستمر لساعة او تزيد. ويتم إدخال الزوار إلى الصالة العلوية الخاصة بالجمهور على مراحل. ويمكن أخذ أجندة المناقشة قبل الدخول – وهي تجربة فريدة تشعر بأهمية النظام الديمقراطي الغربي وحرية النقاش والتفكير المستقل والمساءلة حيث لا يعلو أحد فوق القانون. وهي تجربة فريدة، ينصح كل من زار لندن أو سكن بها أو مر بها أن يخصص يوم الأربعاء بالذات حين تعقد أسئلة رئيس الوزراء للذهاب في تمام الساعة الثانية عشرة لمجلس العموم حيث يسمح له بدون موعد مسبق بالجلوس في (Public Gallery) والاستمتاع بجو ديمقراطي غير مألوف في الكثير من دول العالم المعاصر.
المرافق الترفيهية والمنتزهات العامة تمثل أبرز معالم لندن. فالمنتزهات التي تتوسط لندن وأكبرها (Hyde Park) حيث يقع قصر الأميرة ديانا والذي تحول حاليا إلى متحف، يمثل رئة لندن ومكان لقضاء يوم كامل بين أحضان الماء والخضراء. وهذا المنتزه يجاور شارع (Edgware Road) حيث يحلو للعرب المصيفين بلندن ان ينزلوا لاحتواء الشارع تقريبا على كل ما يلزم العرب من حاجيات وبضائع عربية بدءا بالصحف وانتهاء بالشيشة. وبحكم هذا "الاستعمار" العربي للشارع ولمجاورته للمنتزه، فمن المألوف جدا أثناء التمتع بالمشي في المنتزه أن تلتقط أذنك بعض العبارات العربية.
أما ثاني أهم المنتزهات بوسط لندن هو (Regents Park)، والذي جاورته لمدة خمسة سنوات مما جعل له مكانة خاصة لدي وبخاصة في يومياتي الرياضية الصباحية أو المسائية. وهذا المنتزه المترامي الأطراف يجاور (Camden Town) حيث بعض الأسواق التقليدية حيث يمكن شراء بعض أنواع الصابون المعطر المصنوع يدويا من زيوت وأعشاب طبيعية. كذلك يصل بشارع (Marlborne Road) ويسهل الوصول منه إلى وسط لندن وشارع أكسفورد الشهير. وعلى حافة المنتزه تقع محطة (Baker Street) الشهيرة وهي أول محطة لقطار الأنفاق في العالم تم إنشاؤها في العام 1860، وحولها تقع العديد من المحلات التي تبيع الهدايا التذكارية الخاصة بالتحري الإنجليزي الشهير (شرلوك هولمز). وعلى مبعدة خطوات من المحطة وعلى حافة المنتزه ترى طوابير السياح تقف بانتظار السماح لها بالدخول أفرادا وجماعات لمتحف الشمع الشهير (Madame Taussaude) حيث تقبع صامتة تماثيل الشمع لمشاهير العالم. ومن اللافت أنه في كل مرة تزورها تجد ترتيبا مختلفا للتماثيل والمعروضات فضلا عن الوجوه الجديدة للمشاهير الجدد. وتنتهي هذه الرحلة الممتعة داخل المتحف بركوب سيارات آلية مثبتة على حزام متحرك تدور حول مشاهد مرئية وعرض صوتي ممتع يشرح تطور مدينة لندن تاريخيا ومناحي الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية والترفيهية بها مما أكسبها شهرتها عبر العصور.
شارع أكسفورد الشهير بقلب لندن، يمثل علامة تجارية في عملية التسوق للسياح من أوروبا، وبخاصة من الدول العربية، إذ تكاد تكون عنوان زيارتهم لندن سنويا. ويحوي هذا الشارع التجاري المهم الذي تعود شهرته التاريخية للقرن الثامن عشر حيث تظهر بعض الصور القديمة للشارع العربات التي تجرها الخيول. وبالمناسبة فتشتهر بريطانيا لمخالفتها سير السيارة على جهة اليسار خلافا للكثير من دول العالم وهذا يعود لزمن الخيول التي كانت تجر العربات. فالحوذي كان يجلس على الجهة البعيدة من رصيف المشاة وبيده اليمنى السوط الذي كان يستحث به الخيول على الجري وذلك كيلا يضرب بسوطه المشاة على الرصيف. ومن هنا فمقود السيارة في مدينة لندن يتبع هذا التراث التقليدي حتى بعد تبدل الحال واختفاء الخيول والعربات هذه الأيام.
وبين هذه المرافق اللندنية هناك ميدان (Piccadilly Circus) حيث نافورة ضخمة تقف عندها جموع السائحين تقابل لافتة إعلانية ضخمة مضيئة ليلا تنير الميدان كلها بأضوائها الملونة والتي تعلن لشركات عالمية مثل (Sony) وغيرها. وهذه اللافتة بألوانها الزاهية وشاشاتها المنيرة تقع على نهاية شارع (Regents Street) والذي يتقاطع مع منتصف شارع أكسفورد عند محطة (Oxford Circus). أما شارع (Regents Street) فيحوي الكثير من المحلات التجارية والمطاعم وشركات السياحة وخاصة محل بيع ألعاب (Disney) للأطفال. وفي شوارع داخلية متفرعة عن ميدان (Piccadilly) هناك محلات خاصة لبيع الأدوات الموسيقية يعود بعضها لأكثر من مائتي. شاشة ساحة بيكاديللي الإعلانية المضيئة وضعت بها في العام 1999 لافتة رقمية كانت تعد عدا عكسيا للاستعداد للألفية الجديدة.
بوجود هذه المرافق المتعددة والمتنوعة يسهل بل من الطبيعي أن تلتقي بالعديد من الوافدين من المشرق صدفة ودون ميعاد. وهكذا فمدينة لندن، تظل لها مكانة خاصة لتعدد المناحي الفكرية والثقافية والبيئات التي توفرها من حضرية مزدحمة في الوسط إلى شبه ريفية في شرقها بمنطقة غرينتش. فهي مدينة عالمية تمر بها أفواج وقوافل المفكرين والسياح والمارة وتشكل محطة مهمة بين الشرق والغرب. فيها تنمو وتتطور الأفكار وتنشط بلا حدود من جهة، وفي ذات الوقت يمكن أن تتحوصل فيها الجاليات والطوائف الإثنية في أحياء خاصة تشكل معالم المناطق التي تعيش بها. ولولا هذه التعددية التي توفرها المدينة، والتي تجعلها سرا متجددا على الدوام حتى لمن سكن بها عشرات السنين، لكانت مدينة مملة جامدة. لكنها وعلى الدوام تظل مدينة متجددة تصحو كل يوم بوجه مشرق جديد وإطلالة جديدة على العالم الحديث بما فيها من علماء ومفكرين وباحثين ورواد يقودون العالم في مختلف مناحي المدنية التي تشهدها الإنسانية اليوم.

د . وليد أحمد السيد