عندما بدأ القتال في العاصمة الليبية طرابلس مطلع الشهر بعد سيطرة المسلحين الإسلاميين على بنغازي، أسفر أغلب شيوخ الدين ومن يوصفون بأنهم "علماء" في طرابلس عن وجههم المؤيد لميليشيات الإرهاب المتسربلة برداء الدين. وفجع كثير من الليبيين في هؤلاء الذين كانوا يظنونهم "رجال دين معتدلين" يعارضون العنف ويدعون للتسامح ويمكن أن يشكلوا حائط صد أمام نفوذ الجماعات المسلحة الموصوفة بالإسلامية. وقرب نهاية الشهر، عقد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مؤتمره في اسطنبول ليجدد لرئيسة د. يوسف القرضاوي ويختار أمانة عامة جديدة أغلبها من الشخصيات المعروفة بقربها من الإخوان والتي تقر ما يحدث في مصر وليبيا وتونس والجزائر وجزئيا في اليمن وإلى حد ما في سوريا والعراق من أعمال عنف مرتبطة بالإسلام. ومنذ وصل الإخوان إلى الحكم في مصر ـ ثم ضيق الناس بهم وحرمانهم منه بعد عام ـ ومحاولاتهم الاستئثار بالسلطة في بقية الدول التي شهدت ما سمي "الربيع العربي" والجماهير العادية في منطقتنا تنكشف على حقيقة الدور الذي يقوم به كثير ممن يسمون "علماء الدين".
منذ أحداث الـ11 من سبتمبر 2001 والعالم، وليست فقط الشعوب العربية والمسلمة، يراهن على هؤلاء "العلماء" الذين غالبا ما يشار إليهم بأنهم دعاة "الإسلام الوسطي" الذي يمكن أن يواجه الأفكار المتطرفة لدى جيل "المجاهدين" الذين يعتمدون العنف وكانوا وراء الهجمات على الأميركيين في عقر دارهم. لم يقتصر التعويل على العلماء في "استتابة" المتطرفين، ولا حتى العمل على التوعية بين أجيال الشباب بأصول الدين الإسلامي المتسامحة وغير العنيفة، وإنما أيضا للحد من تمويل الجماعات والتنظيمات المتطرفة ومن تجنيد عناصر جديدة. وشكلت مسألة التمويل هاجسا لكل الدول الرئيسية في العالم التي حملت لواء ما سمي "الحرب على الإرهاب" خاصة مع تدفق أموال التبرعات من دول إسلامية غنية على المتشددين في باكستان وأفغانستان ومن غير الطرق التي كانت الولايات المتحدة ومخابراتها المركزية الأميركية تقرها حين كان هؤلاء يقاتلون الاحتلال السوفييتي في أفغانستان.
ومع أن موضوع التمويل والتبرعات حين يذكر يفكر الناس بسرعة في دول الخليج النفطية الغنية، إلا أنني أتذكر أيام الثمانينات حين كان شيوخ ودعاة مصريون لهم بالغ الأثر في جمع التبرعات وتجنيد الشباب لما أسموه "الجهاد في أفغانستان". وبعض هؤلاء شكل عماد ما عرف لاحقا بتنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن. لم يكن كثير من هؤلاء الشيوخ والدعاة والأئمة ـ "العلماء" ـ من تنظيم الإخوان رسميا لكنهم في النهاية يتقاطعون معهم في الكثير. وكانت "دار الحكمة" التي تضم نقابات الأطباء في مصر بمجلسها الإخواني وقتها بؤرة رئيسية لجهود التبرعات وكانت هناك مساجد معروفة بأئمتها يدعون للجهاد، هذا إلى جانب شيوخ وشخصيات دينية محسوبة على تيار الإسلام السياسي. وبعدما انتهى "الجهاد الأفغاني" بتولي حركة طالبان حكم أفغانستان إثر رحيل الاحتلال السوفييتي، أصبح الجهاد لدى المتشددين يستهدف دولا أخرى. وبغض النظر عن تنظيم القاعدة (وله علماؤه أيضا بالمناسبة من شيوخ متشددين متحجرين في الفكر والنظرة للدين) الذي اعتبر مسؤولا عن هجمات الـ11 من سبتمبر، كانت هناك أعمال عنف في بلدان أخرى: الجماعة الإسلامية في مصر والجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.
وكشفت تطورات التغييرات في الدول العربية في السنوات الأخيرة عن مدى وهن التعويل على هؤلاء "العلماء"، وحتى على ما يسمى "الإسلام الوسطي" وأيضا خطورة الإسلام السياسي عموما. وها نحن نعيش ما يجري في مصر منذ احتج الناس على حكم الإخوان وأبعدوهم بمظاهرات شعبية. هجمات على قوات الأمن والجيش، وتفجير منشآت واستهداف مناطق حيوية بما فيها أبراج الكهرباء لخلق حال من الفوضى وتعطيل أي استقرار وأمن في البلد بهدف الضغط اقتصاديا على السلطة وإسقاطها للعودة للحكم. أما النموذج الأكثر فجاجة فهو في ليبيا، التي لم يقبل الإسلاميون أن ينتخب الليبيون برلمانا ليست لهم الأغلبية فيه، فاستمروا في نشاطهم التخريبي الدموي بما يدفع البلاد الآن إلى حافة هاوية الفشل والخراب الدائم غير القابل للإصلاح. ولا يتوقع من "العلماء" في أغلبهم إلا أن يكونوا مع الإسلام السياسي، حتى لو تحدثوا بغير ذلك حين يواجهون بمشكلة العنف لدى المتطرفين من المسلمين.
ولعل في مسيرة العراق الكارثية منذ الغزو والاحتلال أكثر النماذج دلالة على "مأساة العلماء" وعلاقتهم بمزيج الدين/السياسة المسبب للحرائق. ولنفكر قليلا في سؤال بسيط: هل كان يمكن لداعش أو غيرها أن تجند هذه الآلاف من بلدان مختلفة ليذهبوا إلى سوريا والعراق لو لم يكن هناك "علماء" شرعوا ذلك وهيأوه تدينا وإيمانا لفتية تم التغرير بهم أو دفعتهم ظروف أخرى إلى الضلال؟ لا بد وأن تقود الإجابة عن السؤال إلى التفصيل في مأساة العلماء الذين راهن عليهم الكل ليكتشفوا أنهم جزء من المشكلة وليس الحل.

د. أيمن مصطفى كاتب عربي ـ لندن