[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
.. ولم تمضِ سوى سنين قليلة, وبدأ الموقف العربي يتغير ويعيد النظر إلى مصر، وأعادت معظم الدول العربية علاقاتها مع مصر, وعاد مقر جامعة الدول العربية إلى القاهرة, واتضح أن الرؤية العمانية كانت صائبة, وأن جلالته كان يدرك مسبقا مصير هذه المقاطعة, وأنها نتاج قرارات انفعالية غير مدروسة..

عندما تقلد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ حفظ الله ورعاه ـ مقاليد الحكم, في العام 1970م, اختار السلام منهاجا لحل النزاعات, واعتمد الحوار طريقا لحل الخلافات، ومد يده للجميع من أجل إقامة دولة قوية موحدة تنعم بالأمن والاستقرار واللحمة الوطنية, لأنها الشروط الأساسية ـ كما يرى جلالته ـ لتحقيق التنمية والرخاء, وحرصت السلطنة بقيادة جلالته أن تقيم علاقات طيبة مع محيطها العربي والإسلامي، وتشارك بفعالية في الجهود الخيرة لنشر المحبة و السلام والتعاون والأمن في جميع أنحاء العالم من خلال تواجد السلطنة بالمنظمات الدولية, واختارت السلطنة سياسة خارجية مستقلة قوامها احترام إرادة واختيارات الشعوب, وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول, سياسة نأت بالسلطنة عن المحاور التي تنشر الدمار والخراب والتكتلات المشبوهة التي تنشر الشقاق والكراهية بين الدول والشعوب.
تجلت ملامح السياسة الخارجية العمانية من خلال المواقف والأزمات العديدة التي مرت بها المنطقة العربية خلال العقود الأربعة الماضية، وكان الاختبار الحقيقي للدبلوماسية العمانية في عصرها الحديث, عندما أعلن الرئيس المصري الراحل أنور السادات عزمه زيارة القدس بعد سنوات قليلة من نصر أكتوبر 1973م ونجاح الجيش المصري في عبور قناة السويس والسيطرة على بضعة كيلومترات من أرض سيناء, ولكن الولايات المتحدة الأميركية تدخلت بثقلها إلى جانب إسرائيل التي استطاعت بفضل المعلومات والصور الملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية الأميركية في إحداث ثغرة بين القوات المصرية والعبور إلى الضفة الغربية للقناة والوصول إلى مشارف مدينة السويس, وأدرك السادات وقتها أن لا سبيل إلى حسم الصراع عسكريا لاختلال ميزان القوى والدعم اللا محدود الأميركي والغربي لإسرائيل عسكريا وسياسيا, فوافق على اتفاقية فصل القوات وبدأ يفكر في حل بديل للحرب لاسترجاع سيناء وكان قراره الشهير باستعداده لزيارة إسرائيل من أجل عودة الأرض المحتلة، وفي نوفمبر 1977م, قام بزيارته التاريخية لإسرائيل وذهب للكنيست الإسرائيلي وألقى خطابه الشهير الذي فتح الطريق لتوقيع اتفاقية كامب دافيد بين مصر وإسرائيل.
أحدثت زيارة السادات لإسرائيل صدمة مدوية في العالم العربي, ولم يستوعب الكثيرون الأسباب التي دعت الرجل للمضي قدما في طريق السلام والمفاوضات, بعد سنوات طوال من الصراع خاضت خلالها مصر والدول العربية أربع حروب مع إسرائيل راح ضحيتها آلاف الشهداء ولم تستطع الحروب تغيير الوضع كثيرا على الأرض, كل هذه الأسباب دفعت السادات للوصول لقناعة مفادها أن لا حل للصراع عسكريا, وأنه لا مفر من الجلوس مع الإسرائيليين للوصول لحل لهذا الصراع من خلال المفاوضات.
دعا العراق إلى مؤتمر قمة عربي في نوفمبر 1978م, التأم في بغداد, بحضور معظم القادة العرب, وقرروا رفض أي اتفاقيات سلام مع إسرائيل وقرروا قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر, ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس, وفرض حصار اقتصادي على مصر وكل من يطبع مع إسرائيل, وجاءت الموافقة العربية على هذه القرارات بشبه الإجماع, ولكن عمان قابوس كان لها رأي آخر, دعا إلى التعقل والتروي قبل اتخاذ قرارات محاصرة مصر والنظر بواقعية للأسباب والدوافع التي حدت بالسادات إلى اتخاذ هذا القرار وسلوك هذا الطريق, ورأى أن هذا الحصار سيدفع ثمنه الشعب المصري الذي لا يليق معاقبته اقتصاديا من قبل أشقائه العرب, وأبقت عمان على العلاقات الدبلوماسية مع مصر وفتحت السلطنة أبوابها أمام المصريين للقدوم للعمل والزيارة والمساهمة في النهضة العمانية التي كانت على أعتاب انطلاقة تنموية ظافرة في ذلك الوقت.
ومرت الأيام ولم تمضِ سوى سنين قليلة, وبدأ الموقف العربي يتغير ويعيد النظر إلى مصر، وأعادت معظم الدول العربية علاقاتها مع مصر, وعاد مقر جامعة الدول العربية إلى القاهرة, واتضح أن الرؤية العمانية كانت صائبة, وأن جلالته كان يدرك مسبقا مصير هذه المقاطعة, وأنها نتاج قرارات انفعالية غير مدروسة, وكان الأجدى الجلوس مع السادات ومحاورته بدلا من مقاطعته واغتنام الفرصة لتحقيق السلام الشامل.
وتكررت مواقف السلطنة الرصينة العاقلة في كافة الأزمات التي شهدتها المنطقة, والتي تدعو للحوار كوسيلة لحل الخلافات بين الأشقاء ونبذ العنف ومنع الحروب التي لا تجلب سوى الخراب والدمار والتخلف على البلاد والعباد, لهذا استحق جلالته أن يطلق عليه بكل جدارة لقب حكيم السلام.