على امتداد خريطة العالمين العربي والإسلامي، لا يختلف اثنان على أن القضية الفلسطينية هي أُمُّ القضايا ومحور أي صراع في منطقة الشرق الأوسط، وأن أي حل يفضي إلى سلام شامل دائم بين العرب والمحتلين الصهاينة، هو مفتاح استقرار الأوضاع بالمنطقة، وتوفير الأمن لشعوبها، وتوجيه مواردها نحو إحداث تنمية شاملة مستدامة تحقق الرخاء للجميع، ومن البديهي أن النقطة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها هذا الحل، تتمثل في قوة الموقفين العربي والفلسطيني وتلاحمهما أنظمةً وشعوبًا واتفاقهما على أجندة موحدة يتم تنفيذها وفق جدول زمني، بما يقطع الطريق أمام محاولات الاحتلال الصهيوني ومن معه من الحلفاء الاستراتيجيين تصفية القضية وتهويد القدس بالكامل وكافة الأراضي الفلسطينية.
إلا أنه من المؤسف أن المشهد الراهن على الساحتين العربية والفلسطينية لا يبشر بخير خاصة بعد سيطرة الفوضى والإرهاب على مفاصل دول عربية فاعلة ومؤثرة جراء ما سمي كذبًا "الربيع العربي"، وبروز تحالفات وعمليات تنسيق غير مسبوقة سرًّا وعلنًا من قبل قوى عربية مع كيان الاحتلال الصهيوني الذي ذهب بعيدًا من أجل قلب جميع المعادلات لصالحه، لتتكامل هذه الصورة المفزعة مع الصورة النمطية المكررة والممجوجة والمتمثلة في رئيس أو مسؤول غربي يأتي إلى المنطقة وآخر يغادرها، ولجنة عربية تجتمع هنا وأخرى غربية ـ عربية تجتمع هناك، وكل ذلك يسير تحت عنوان واحد وهو "الوساطة وبحث ما يسمى عملية السلام"، والقاسم في النتائج هو "الجعجعة بدون طحن" و"الصمت دهرًا والنطق كفرًا" بخلطة من الشجب والإدانة، مع استمرار لا حدود له من الشراهة والنهم لدى غول الاستيطان الذي يتغول يوميًّا في ما تبقى من الأرض الفلسطينية، ومع سرعة قصوى لقطار التهويد لمدينة القدس المحتلة.
لقد كان لافتًا البيان الهزيل الذي خرجت به لجنة القدس والذي لا يريد أن يتحرر عن تلك النمطية التي طغت على الخطاب العربي الرسمي منذ كامب ديفيد، فمن يقف على بيان لجنة القدس في ختام اجتماعها أمس لابد له وأن يلاحظ عدد عبارات الشجب والإدانة والاستنكار، وعدد التذلل والاستجداء والتسوُّل لما يسمى المجتمع الدولي ليتدخل ليحمي مدينة القدس من التهويد الذي يطولها من كل اتجاه ويقسمها عموديًّا وأفقيًّا.
والأسئلة التي تطرح نفسها هنا: منذ متى كان ما يسمى المجتمع الدولي حاميًا للمقدسات الإسلامية وغيورًا على دماء العرب والمسلمين؟ أليست هناك قوى بين هذا الذي يسمى المجتمع الدولي تتمتع بعلاقات تحالف استراتيجي مع كيان الاحتلال الصهيوني وتدعمه بالمال والسلاح وبالسياسة والدبلوماسية؟ ألم تعطل هذه القوى عشرات مشاريع القرارات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالصراع العربي ـ الصهيوني وبحماية الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال؟ أليست هذه القوى التي تتسول منها لجنة القدس هي التي تقود الآن مفاوضات تصب في اتجاه واحد وهو الاحتلال الصهيوني على حساب الحق الفلسطيني؟
لابد وأن كيان الاحتلال الصهيوني وهو يتابع بيان لجنة القدس قد تملكته الأريحية التامة، والسخرية والاستهزاء في الوقت ذاته من مثل هذه المواقف اليائسة التي تفتح الطريق أمام غول الاستيطان وقطار التهويد، بل إنه من هذا البيان سيستمد قوته نحو السعي إلى تغيير خرائط الجغرافيا السياسية بالمنطقة؛ لأن كيان الاحتلال الصهيوني يعلم مسبقًا ويقينًا موقف المُنادَى من قبل لجنة القدس وهو ما يسمى المجتمع الدولي.
إن القضية الفلسطينية وخاصة القدس لما تمثله من مكانة ورمزية في وجدان وأنفس كافة المسلمين يجب أن تكون سببًا في تغيير لغة الخطاب، ودافعًا نحو إعادة صياغة آليات عمل جديدة تلزم كيان الاحتلال الصهيوني بتنفيذ ما يتوجب عليه من استحقاقات وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وإلا فإن مصير القضية والقدس ماضٍ حتى النهاية التي تسيران نحوها الآن.