قراءة في ندوة :"فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة"

كثر حديث الناس عن الوطنية، واختلف تفسيرها بحسب طبيعة الإنسان وثقافته وفكره وعقيدته

الدين والوطن لله تعالى، إذ كل المسلمين في مختلف الأقطار والبقاع تربطهم رابطة الوطنية والأخوة الإسلامية

المواطنة تقوم على أساس الصدق والأمانة والشفافية، بعيدا عن المحسوبية والنفاق والفساد

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجــلالة السلطان قـابـوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أقيمت خلال الفترة من 25 الى 28 جمادى الاولى 1434هـ الموافق 6 الى 9 ابريل 2013م ندوة تطور العلوم الفقهية والتي جاءت بعنوان:"فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة" وهي النسخة الثانية عشرة من الندوات التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في هذا الجانب المهم .. حيث شارك في الندوة علماء ومفكرين وباحثين من داخل السلطنة وخارجها .. وتناولت اوراق عمل وبحوثا هامة.
وضمن تلك البحوث والاوراق المقدمة .. ورقة عمل بعنوان: (المواطنة في الخطاب التشريعي الإسلامي مع اختلاف العقائد) للباحث الدكتور سلطان بن محمد بن زهران الحراصي.

ثانيا: الوطنية
وقال الباحث في هذا الجانب: لقد كثر حديث الناس عن الوطنية، واختلف تفسيرها بحسب طبيعة الإنسان وثقافته وميله واتجاهه، وفكره وعقيدته، فالذين يفصلون الدين عن الواقع، أبعد معظمهم ـ إن لم يكن كلهم ـ الدين عن معنى الوطن، فظهرت مقولة :" الدين لله والوطن للجميع"، وعرفوا الوطنية بأنها حب وارتباط وولاء شعوري من الجميع بقطعة من الأرض هي الوطن ـ وإن وصل إلى حد التعصب ـ بصرف النظر عن طبيعة اللغة أو القوم أو الجنس أو المعتقد .. وهنا يكون مكمن الخلاف أو التوافق بين الوطنية بالمعنى العلماني الدنيوي أو الوطنية بالمعنى الديني الإسلامي، فالتوافق قد يكون ـ في رأي البعض ـ في حالة بُعد العلمانية عن محاربة الدين كمنظومة متكاملة، والأخلاق كقيم عليا مطلقة ثابتة وواجبة التطبيق، والتوحد أو الاتحاد مع نظام الإسلام الكلي الجامع في تكوين وحدة وطنية شاملة لجميع أفراده، تهتم وتعنى بقضايا الوطن العامة الكلية، إذ لا إشكالية لدى الإسلام الحق في التفاعل والانفتاح مع الغير، في ظل الاحترام المتبادل للأديان والعقائد والأيديولوجيات المختلفة، وأما الاختلاف فقد يكون في إبعاد الإسلام عن الواقع الذي لا يشفى إلا بوجوده (الإسلام)، إذ لا يوجد علاج لتربة الوطن الإسلامية إلا في ظل الإسلام دين الله الحق، على أن الإصرار على إبعاد الإسلام عن الواقع يفقد الإسلام جوهره ووظيفته، إذ لا فائدة في دين لا أثر له إيجابي في واقع الحياة، دين يتلاعب بثوابته وقواعده حسب الهوى والرغبة ومجريات الأحداث والأوضاع، على أن أخطر ما يتهدد الدين والوطن هو رضوخهما أمام التداعيات السياسية والواقعية، وصديات التغيرات العالمية المناقضة للمعتقد الديني والهوية الوطنية، وهذا المفهوم العلماني المتطرف للوطن والوطنية يخالف ويناقض الإسلام من عدة وجوه أهمها: أولا: الولاء في المنظومة الإسلامية لا بد أن يكون لله ورسوله والمؤمنين، ثانيا: إبعاد الدين عن واقع الحياة، والتعصب للمصلحة المادية البراجماتيه أو للحزب أو للحاكم أو للعرق أو للمذهب .. بعيدا عن قيم الدين وضوابطه المحددة لنظامه العام في فكر الأمة الجمعي، وإقامة العلاقات الداخلية والخارجية على مستوى حب الوطن الترابي فقط ــ كقطعة أرض تغزوها الأفكار والمصالح من هنا وهناك ــ لا الديني كمنظومة فكرية عقدية محددة يطلب منها ضبط سلوك الأمة وتوجهاتها وفق قانون إلهي ودستور قرآني محكم .. هذا المفهوم الغربي لا ينبت ـ أبدا ـ في تربة الوطن الإسلامي، مهما حاول دعاته غرسه بالقوة وبمختلف الوسائل، إذ يكون كاللقيط أو المولود المهجن، فسرعان ما تلفظه الجماهير في الباطن أو الظاهر، وان استفحل أمره عم بسببه الشر، وضاقت الأمة المرارة، وظهرت الطوائف التي تتناحر وتتضاغن ويكيد بعضها بعضا، وتتبع المناهج الوضعية والمصالح الشخصية، وهي تتشدق بحب الوطن والولاء للمواطن، وشاهد ذلك ما يحدث اليوم في بعض بلدان الربيع العربي من اختلال الموازين واختلاف المعايير، بسبب تداخل المصالح الآنية، وخلو كثير من النفوس من منهج الدين الحق الضابط للسلوك الجمعي للأمة، ثالثا: أهم ضابط للوطنية في الإسلام هو الدين والعقيدة، والفكر والثقافة والتاريخ النابع من أصالة الدين وصفاء المعتقد وطهره، فهوالمكون الحقيقي للوطن، ولا عبرة بالأرض والجغرافيا، فالأرض ومن وما فيها لله سبحانه وتعالى، فالدين والوطن لله تعالى، إذ كل المسلمين في مختلف الأقطار والبقاع الأرضية تربطهم بنا رابطة الوطنية العامة، والأخوة الإسلامية، التي تشمل بشمولية الإسلام وعالميته الجميع، فهي ليست مجرد ارتباط بقطعة أرض أو عشيرة أو قرابة أو قوم أو أموال ..الخ، بل هي ارتباط حقيقي براية الإسلام الجامع الحق التي نعيش من اجلها ونحيا لإعلائها... أما غير المسلمين فقد أنصفهم الإسلام بأحكام تضمن لهم الأمن والأمان والسلم والسلام، وهذا يظهر في كتاب الله العظيم وسيرة النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتاريخ سلف الأمة، ولا عبرة ببعض التصرفات الاستثنائية في زمن الفتن وركود التوجه الإسلامي، بفعل الاستقطابات المذهبية، والتدخلات الدولية، والمطامع المادية، وبعد أو إبعاد منهج الوسطية.
هذا، ولا أعني بهذا الكلام مناقضة مصطلح الوطنية أو المواطنة بمعناه الحديث للإسلام جملة وتفصيلا، بل يمكن التعاطي مع بعض أطروحات هذا المصطلح إذا توافق في منطلقاته وتوجهاته عموما مع منظومة الإسلام وأصولها الشرعية.
رابعا: لا يعتدي الإسلام على ما لدى الغير من الديانة أو اللغة أو الثقافة والفكر والتاريخ، ولكن يمارس المسلمون دورهم في الدعوة بالحسنى، بوصفهم خلفاء الله في أرضه، ولذلك توجد في الإسلام الحنيف أحكام خاصة لأهل الكتاب والمنافقين والمشركين، على أن الله تعالى قد خلق الناس ومنحهم نعمة الاختيار، بعد أن وهب لهم العقل المفكر والقلب النابض، والبصيرة المدركة لحقائق الأمور.
* المبحث الثاني: معنى الدين وأهميته الوطنية
وقال: لا بد للوطن من مواطن، فالمواطنون هم سكان الوطن، تجمعهم مصلحة الوطن العامة، على اختلاف طبائعهم وثقافاتهم ومستوياتهم الاجتماعية، فالوطن الواحد هو الحضن الدافئ الذي يمد الكل بالأمن والاستقرار المبني على قواعد العدل والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات، النابعة من فكر الأمة ودينها.
فالمواطن لا ينتمي إلى أرض فحسب، وإنما ينتمي إلى ما في الأرض من أفراد ينتمون إلى دين قويم وفكر رصين وحكم عادل، وتاريخ مشترك، ونظام وقانون جامع يضمن له الحماية التامة والعمل المخلص، والاستقرار الذي يفضي بدوره إلى التفاعل الايجابي، والإقامة الآمنة السعيدة وغير ذلك من الحقوق، إذ يتفاعل المواطن مع وطنه فتظهر المواطنة التي تحمل معنى الحقوق والواجبات، كما يظهر على المواطن التعلق الروحي والارتباط النفسي بينه وأفراد الوطن، إذ يرتبط معهم في الدين واللغة والاجتماع والسياسة والمصالح المشتركة المتبادلة، ومع هذا التوافق والاندماج التام الكامل يتحقق الإخلاص في خدمة الأمة والوطن.
* المطلب الأول: الدين أهم أساس للمواطنة في المنظومة الإسلامية
وقال الباحث حول معنى الدين عند المسلمين وغيرهم: يختلف معنى الدين في المنظومة الإسلامية عن معناه في المنظومة غير الإسلامية، فالدين عند الرجل المتدين هو وضع الهي معصوم في كل ما جاء وحكم به، فهنالك ثوابت تحدد مسيرة الأمة، وقانونها العام فيما يتعلق بالأخلاق والقيم والمبادئ والأفكار والمعتقدات والحلال والحرام، تحفظ الأمة من الانزلاق وتقليد الغير أو التأثر السلبي به، وتضبط علاقة الإنسان بربه والكون والبشر، يظهر ذلك في محكمات القرآن الكريم، وصحيح السنة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، والدين بهذا المعنى يضمن للوطن السلم والسلام والأمن والأمان، لأن من خصائص عقيدة التوحيد الانفتاح العالمي وعدم التقوقع الذاتي، وهذه هي العالمية ، أي إلقاء كافة الخصوصيات العرضية التي هي وليدة لون أو جنس أو تاريخ ...الخ، فالقرآن بتكريمه الإنسان لآدميته قد أسقط من الاعتبار كل أصناف الخصوصيات أو التمحورات العرقية أو اللغوية أو الجغرافية المكانية...الخ، أما نظرة معظم مدارس الغرب وجامعاته للدين فتقوم على أنه مؤسسة اجتماعية لها أربعة أبعاد هي: البعد النظري وهي العقائد الدينية، والبعد العملي وهو الفقه أو الشريعة، والبعد التنظيمي المتمثل في أماكن العبادة كالمساجد والكنائس، والبعد الوجداني العاطفي كالآداب والفنون..الخ، وهذه النظرة مع المتدينين، أما غير المتدينين (الملاحدة) فينظرون إلى الدين باعتباره: صنعة بشرية أي تقاليد ثقافية متراكمة عبر العصور، فالدين صدى لأوضاع ثقافية وتاريخية، وإسقاط لحاجات في الفرد أو المجتمع للتعبير عنها في صيغ دينية، فقد يكون من صنعة عبقري، أو محاولة لتصوير أب كوني ينسبون إليه الرعاية، فالتدين عندهم وهم لا حقيقة له.... ومنشأ هذا الكلام الخرافي الساقط هي النظرة العقلية المبالغ فيها، فهؤلاء يصنعون بعقولهم دينا يختص بهم، ولهم في ذلك طرائق قددا، ومذاهب بينها نوع صراع وخلاف ومشاكسة، فهم يعتمدون على البحث العقلي الحر، والذي ينتهي إلى حيث هدى العقل، ونحن نرى أن عقول معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع ـ في بحث مسائل الدين والغيبيات (ما وراء الطبيعة) ـ تتفاوت منذ فجر الفلسفة إلى الآن والى المستقبل، لأن كل أحد يعتد بعقله، أما الدين بالمعنى الشرعي فأساسه الاعتقاد الجازم ـ من غير شك البتة ـ أن الدين صنعة ربانية محكمة وقيم ثابتة مطلقة وواضحة من نفسها، وغير الثابت أي المتغير منها يقبل النظر العقلي وفق منهج المصلحة الشرعية، والتي يدركها المتخصصون من علماء الشريعة والحقيقة ذوي العقول النيرة والبصائر الطاهرة والنوايا المخلصة، المتشبعون بعلوم القرآن والسنة، والمتشوقون لسيرة سلف الأمة، والمطبقون لتعاليم الدين وقواعده الكلية، فالدين يبقى منهجه الاستسلام والانقياد بمسلمات عقدية ثابتة، وغير قابلة للبحث العقلي الحر، ولكن قد تبرر من بعد بأدلة عقلية مع الإمكان من باب الزيادة في طمأنة القلب.
* حاكمية الدين وأهميته الوطنية في الإسلام
واوضح قائلاً: إذا كنا نعتقد ـ جزما ـ أن الدين هو الأساس في كل شيء، وذلك من حيث إنه وحي رباني إلهي جاء ليصلح البشرية، فإن أول صلاح يجب أن يكون في الوطن هو المواطن، فإذا صلح المواطن صلح الوطن، وقامت المواطنة على أساس الصدق والأمانة والشفافية والطهر والنقاء، بعيدا عن المحسوبية والنفاق والفساد والمصلحة لحسابات معينة، ولا يتحقق صلاح الوطن إلا بدين قويم، ومنهج رصين وقائد حكيم يأخذ الأمة إلى مهيع السلامة وموطن النجاة باعتماد دستور القرآن وسيرة نبي الأمة وصحابته الكرام، وهذا ما لا يتم إلا بالآتي: أولا: ضرورة حكم الوطن بمنهج واضح ودين قويم، حتى لا يختلط الحابل بالنابل، فيصطاد البعض في الماء العفن، وحكم الوطن المسلم هو الإسلام ودستوره القرآن الذي يضمن حقوق الآخرين، مهما كانت توجهاتهم واعتقاداتهم، ونصوص القرآن والسنة والتاريخ أكبر شاهد وأعظم دليل ، أما أقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطنا بلغ في عهده وخلفاءه الكرام مبلغا عظيما، أما كانت في عمان وغيرها من بلاد الإسلام دورات تاريخية مجيدة تعيد لنا سيرة السلف الصالح، فلا بد من ظهور هوية الإسلام على المواطنين، لتحقق ظهور الوطن، ظهورا معنويا وماديا، جسديا وروحيا، واقعيا ومثاليا، دنيويا وأخرويا، وهنا يتحقق للوطن التكامل في النظرة بين متطلبات الحياة والنفس البشرية، فيصنع الوطن بمواطنيه المخلصين لربهم الحضارة بشقيها المادي والمعنوي، فيكثر الرخاء والأمن، والخير والبركة، والنماء والتقدم، ولا يكون هنالك مجال لنشر الفتنة ــ على اختلاف أشكالها وألوانها ـ في الوطن لعدم تقبلها، فتربته لا تنبت إلا طيبا.
مشيرا الى ان السير في الانفتاح من غير تقييد، ومتابعة العولمة من غير تفنيد، والرضى بالغث والسمين من الأطروحات الفكرية والقوانين الوضعية من غير تمحيص وتدقيق، والسماح لكل من هب ودب أن يلج حرم الوطن وعقل المواطن، بما لديه من لوثات فكرية وتوجهات كفرية، ونظرات الحادية، بحجة قوة سلطان العولمة، وتغير نظام العالم المادي اليوم بخلاف الماضي، وظهور مناهج حداثية ونظرات عقلية لا بد من العمل بها والتعامل معها شئنا أم أبينا، وضرورة تطويع الدين لها، وعدم الاعتماد على أطروحات علماء الماضي إذ هي تناسب زمانهم، خوف التقوقع والانزواء أقول: بأن هذا نذير شؤم يؤذن بانهيار المواطنة والوطنية ـ ولو بعد حين ـ بعد انهيار منظومتها الدينية وقيمها الأخلاقية، ذلك لأن الوارد من الخارج لا يحمل كينونة وهوية الداخل دائما، فالأطروحات التي نشأة في التربة الغربية تكونت في جو يختلف جملة وتفصيلا عن مكونات الدين في التربة الشرقية العربية، فتلك إلحادية كفرية مصلحية محرفة مسيسة، وهذه توحيدية إيمانية احسانية محفوظة تسعى للإصلاح وفق منهج رباني، يعتمد على ثوابت القرآن ومطلقات السنة التي تؤسس الهوية، وتحمي الأمة من التغريب أو الانصهار، والانفتاح غير المحمود على الغير، كما يعتمد هذا المنهج الرباني على المتغيرات التي ينظر إليها في إطار الثوابت، ومع واقع الأمة المتغير النامي، والتي يعلمها أولو العلم والحكمة والسياسة والبصيرة، على أن هؤلاء الذين يسعون لتتبع مناهج الغرب وتقليد أطروحاتهم في عصر العولمة، ماذا فعلوا وقدموا للأمة سوى تشكيك أكثرهم في صلاحية الدين، وزرع الخوف والهلع والرعب من التوجه الإسلامي الحق، وغرس مبادئ غربية مهجنة إسلاميا بطريقة ملتوية غسلوا بها عقول أنصاف المثقفين من العرب والله المستعان، ثانيا:ضرورة تربية المواطنة على معرفة الصراع أو التدافع بين الحق والباطل، وأنه كوني أراده الله تعالى من طبيعة هذا الكون العظيم، لتستقيم به الحياة، ويتحقق به الابتلاء والتمحيص فلا يعرف الحق بدون الباطل، ولا المؤمن بدون الكافر، ولا المظلوم بدون الظالم، كما لا يطلع النهار بدون الليل، ولا النور بدون الظلام، كما لا نعرف طعم الحلو بدون معرفة طعم المر، ولا يدخل الإنسان الجنة أو النار من غير دنيا الابتلاء .. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من غرس قيم الدين ومبادئ القرآن، وأحكام الإسلام، وتربية الإيمان في قلوب النشء منذ نعومة أظفارهم، في وطنهم، في البيوت والمدارس، في المؤسسات العامة والخاصة، الرسمية وغير الرسمية، في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، في النوادي والمنتديات، في الدوائر الحكومية والوزارات ..الخ، فتخرج رائحة الدين الزكية من الوطن النقي، عندها يتسلح المواطن بالدين الذي أراده الله تعالى لحماية الوطن من شرور شياطين الإنس والجن، إذ يعرف حقوقه وواجباته، ويسعى لمعالي الأمور مبتعدا عن سفاسفها، همه إقامة الحق ومحاربة الباطل، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحقق خيرية هذه الأمة، يهدم بمعول الحق الصامد معاول الباطل المتهاوية، ينفتح على العالم انفتاح خير وبركة، يأخذ الصالح ويترك الطالح، يكون قائدا بقوة عقيدته القرآنية، ووسطيته الإيمانية، ومتبوعا بسبب سلوكه القويم، وصدقه وإخلاصه العظيم، الذي أوصله إلى جناب ربه الكريم، فهداه الله السبيل ووفقه لأسباب الخير في الدنيا والآخرة .. وبدون ذلك قد يتربى الإنسان ـ وفي وطنه ـ على الفتن والفساد والمصلحة والشهوات، فيكون مواطنا لا يحمل قيم المواطنة الحقيقية الراقية، بل قيم المواطنة المادية الدنيئة، إذ يفتقر إلى هوية الوطن وهي الدين الحقيقي، وطبيعة الدين وهو التطبيق الواقعي، وأثر الدين وهو الالتزام الفعلي، وبدون الدين وطبيعته وأثره يكون المواطن كالدابة أو البهيمة يسعى لشهوة مالية مادية أو لذة جسدية حيوانية أو مصلحة مادية آنية أو حقد قلبي نفسي أو غضب شيطاني عدوني فيتعدى الحدود ويتجاوز السدود، ويبالغ في الأخذ والعطاء والفساد والإفساد من غير رادع نفسي ولا قلب نوراني، فيهدم المواطن ـ عندها ـ بمعول المواطنة الوطن، متى سنحت له الفرصة، فيكثر الفساد والمفسدون، وتنتشر الأمراض والحوادث، وتقل البركة في البلاد والعباد، وتأتي الضربات الإلهية السماوية والأرضية كإنذار رباني لأولي البصائر والعقول ولذلك كم واجه رسل الله الكرام ــ وهم يشتركون مع أقوامهم الوطن الواحد ــ فساد المفسدين، إلا أن تلك المواطنة لم تمنعهم من إيصال كلمة الحق، والوقوف ـ بقوة ـ أمام الباطل، حتى لا ينتشر شره فيعم الجميع، فقد حكى الله تعالى لنا كثيرا من قصصهم في كتابه الكريم، مصدرا ذلك الخبر بلفظ القوم الذي يفيد معنى المواطنة، ثالثا: يكون الانتماء للوطن والوطنية إيجابيا أو سلبيا، أما الايجابي منه فهو الانتماء للوطن بتاريخه وثقافته وفكره الأصلي، فكل أحد في دول العالم ينتمي إلى وطنه باعتبار دينه وثقافته وتاريخه، اللهم إلا الدول التي لا تاريخ لها ولا دين وثقافة، ولذلك تظهر الهوية الوطنية والجنسية في كل وطن، وليس معنى هذا إبعاد الآخر ( الأقليات أو المواطن غير الأصلي) عن معنى المواطنة، بقدر ما يعني المحافظة على نسيج الأمة الفكري والعقدي والثقافي، وإذا كان هذا معمولا به في أكثر دول العالم التي تسعى للحفاظ على مواريثها الفكرية والتاريخية، فالأولى فعله في دول الإسلام المأمورة بنشر الحق، لا سيما مع كفالة الإسلام لحقوق الغير أيا كان.
.. وللحديث بقية.