الحمد الله والصلاة والسـلام عـلى رسـول الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وبـعـد:
فيقول الله تعالى في كتابه العزيز: {إن هـذا القـرآن يهـدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الـذين يـعـمـلـون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يـؤمـنـون بالآخـرة اعــتـدنا لهـم عـذابا ألـيما }سـورة الإسـراء 9 ـ10، ومما يـذكـره العـلـماء والمفـسرون بأن لأمـين الـوحي جـبريـل عـليه السلام سـتمائة جـناح، وهـذا الـذي اتـفـق عـليه لـجـبريـل عـلـيه السلام ، كـما أن الله أعـطـاه قـوة عـلى تغــيير خـلـقـتـه، ولـذلك فهـو يـغــير شـكله مـن صـورة إلى أخـرى، يظـهـر بمظـهـر البشـر السـوي مـن لحـم ودم، كما قال الـرسـول صلى الله عـليه وسـلم : ( وأحـيانا يأتـينـي عـلى صـورة دحـية بن خـلـيـفـة الكـلـبي .
وقــد رآه الصحابة رضي الله عـنهـم عـلى هـذه الصـورة مـرارا، كـما كان يـذكـر في غـزوة بني قـريظـة، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بهم وهم يـتهـيـؤون للخـروج إلى بني قـريظـة فـسألهـم: ما أنبأكم بهـذا فـقـالـوا مـر بنا دحـية بن خـليـفـة الكـلبي ، فامـرنا فـقال لهـم ذلـكـم جـبريـل عـلـيـه السـلام .
ولما مـر رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم بنفـر مـن أصحابه بالصوريـن قـبـل أن يـصل إلى بني قـريـظـة، فـقال: هـل مر بـكـم أحـد؟، قالوا: يا رسـول الله قـد مـر بنا دحـية بن خـليـفة الكـلبي عـلى بغـلة بيضاء عـلـيـها رحاله، عـليـها قـطـيـفة ديـباج فـقال رسـول الله صلى الله عـلـيـه وسـلم: (ذلك جـبريـل بـعـث إلى بني قـريظـة يـزلـزل بهـم حـصونهـم ، ويـقـذف الـرعـب في قـلـوبهـم ) . (ابن هـشام السيرة النبوية جـ 4 ، ص 193) .
ذكـر القـرآن الكـريـم أن النبي صلى الله عـلـيه وسـلم رأى جـبريـل عـلـيه السلام عـلى صورته الحـقـيـقـية مـرتـيـن إحـداهـما هي التي ذكـرها الله تعالى في قـوله: {فاسـتـوى وهـو بالأفـق الأعـلى، ثـم دنا فــتـدلى فـكان قـاب قـوسـين أو أدنى }والثانية هي التي ذكـرها في قـوله : { ولـقـد رآه نـزلة أخـرى عـنـد سـدرة المنتهى }.
إذن: لقد اسـتـوى جـبريـل عليه السلام عـلى صـورته الحـقـيـقـية وهـو بالأفــق المـبيـن، ثـم بـدأ يـتـدلى ويـنـزل شـيـئا فـشـيـئا حـتى اقــترب مـن النبي صلى الله عـلـيـه وسـلم ونحـن لا نعـلم مـقــدار العـلـو الـذي تـدلى منه جـبريل عـلـيـه السـلام، فالأفــق نـفـسه بـعـيـد ثم زاد فـوصفـه الله تعالى بالأعـلى، قال بـعـض المفـسرين: في الآية قـلـب الأصـل، كان مـن المـفـروض أن يـقـول: ثـم تـدلى فـدنا، ولـكـن لا، إذ لا يـوجـد فـرق في ذلك، لأن المـراد هـو الجـمـع بـين الـدنـو والـتـدلي، فـهـو يـقـترب مـتـدلـيـا ، وكأنه يـنـزل شـيـئا فـشيئا حـتى اقــترب مـن النبي صلى الله عـلـيـه وسـلم فـكان بمـقـدار قـوسـين أو أقـل مـن قـوسـين.
ولـيـس في قـوله تعالى: {فـكان قـاب قـوسـين أو أدنى}شــك منه في تـقـديـر المسافة، تعالى الله عـن ذلك عـلـوا كـبيرا، فلا يـلـتـبـس عـلـيـنا الأمـر فـنـقـول: لماذا يـقـول الله تعالى: {فـكان قاب قـوسين أو أدنى}؟ ولماذا لم يحدد المسافة بـدقـة وهـو أعـلم بها؟، فالله تعالى يعـلم حـقـيـقـة الـبـعـد والـقـرب بالـتـدقـيـق، وإنما جـاء هـذا الـتـعـبـير عـلى حـسب تعـبـيـر الـبـشـر عـن القـرب .
فاقـتضـت حـكمة الله تعالى أن يـعـبر به، حـتى يكـون أسـلـوب الـقـرآن الكـريـم عـلى الطـريقـة التي يعــبر بها البـشـر بعـضهـم لبـعـض، لكـنه يـبـلـغ درجـة الاعـجـاز، ويـشـبـه هـذا قـوله تعالى في سـيـدنا يـونـس عـلـيـه السـلام: {وأرسـلناه إلى مائة ألف أو يـزيـدون} سـورة الصافات 147، فـقـد يـقـول أحـد: لماذا لم يحــدد الله تعالى الـعـدد وهـو أعـلـم به؟ والجـواب فـإن لله تعالى في ذلك حـكـمة وســرا، ولـيس خـفـاء ذلك ينقص مـن روعة الإعجاز
قال الله تعالى: {فأوحـى إلى عـبـده ما أوحى} سـورة النجـم 10، دنا فـتـدلى فأوحى إلى عـبـده محـمـد بن عـبـد الله (وهـو عـبـد الله ورسـوله) ما أوحى، ويـستعـمـل هـذا الأسـلـوب للـتـفـخـيـم والـتعـظـيـم ، يعـني : أوحى إلـيـه ما لا يحـيـط به الـوصف، وما لا يعـلمه إلا الله وجـبريـل عـلـيـه السـلام ومحـمـد صلى الله عـلـيـه وسـلم
قال الله تعالى : { ما كـذب الـفـؤاد ما رأى }سـورة النجـم 11، ما معـنى هـذا؟: مـعـناه أن النبي صلى الله عـلـيـه وسـلـم رأى جـبريـل عـلـيـه السـلام ولـم يـكـن يـعـرفه مـن قـبـل: رآه عـلى صـورته الحـقـيـقـية أو عـلى صـورته غــير الحـقـيقـية إذا تمـثـل له بـشـرا سـويا ، ولـكـن ما الـذي جـعـل النبي صـلى الله عـلـيـه وسـلـم يتـيـقـن بأن هـذا الـذي رآه هـو جـبريـل سـيـد المـلائكـة ، وأنه رسـول جـاء مـن قـبـل الله تعالى هـذا ما يجـب أن يـعـلمه الناس ؟ .
وهـذا الـذي عــبر عـنه الله تعالى بـقـوله : { ما كـذب الـفـؤاد ما رأى }، يـعـني ما كـذب الـفـؤاد ما رأى، فالله تعالى يملأ فـؤاد نـبيه صلى الله عـلـيه وسـلم طـمأنـينة وتصـديقـا وتحـقـيـقا وعـلما يـقـيـنـيا لا شـك فـيه بأن هـذا الـذي يـوحي إلـيه هـو جـبريـل عـلـيـه السـلام رسـول الله إلـيـه ، وإلى جـميـع الـرسـل الـذين سـبـقـوه . ولـكـن لماذا عـبر عـن هـذا بنـفي الكـذب عـن الـفــؤاد ؟
ذلك لأن العـيـن قـد تـرى شـخـصا فـتـظـنه فـلانا أو فـلانا أو حـيـوانا أو أســدا أو ذئـبـا ولـكـن الـفـؤاد يـكـذبـها ، فـقـد يـقـول لك أحـد : أنا فـلان فـتـقـول له: كـلا ، لسـت فـلانا ، لأن فـؤاده كـذبه ، فالحـرف هـو الـحـرف الـذي يسـتعـمـل للـنـفي جـيء به لإدراك الحـقـيـقـة وللـتيـقـن مـن إدراك الـفـؤاد لها، فالـيـقـين لا يـكـون مـن نظـر العـين، وإنما يكـون مـن تصـديـق الـقـلـب ، ولـهــذا عــبر الله تعالى بـقـوله : { ما كـذب الفـؤاد ما رأى } يعـني : لـقـد صـدق الـفــؤاد ما رآه ولـم يـكـذبـه ، وجـد النبي صلى الله عـلـيـه وسـلم في فـؤاده عـلما ضـروريا يـقـيـنـيـا بأن الــذي يحـدثـه هـذا هـو جـبريـل عـلـيـه السـلام لا غـــيره .
فالمسمـوعات والمبصرات والمشمـومات تـتـم بـواسـطـة الحـواس الـثـلاث : ( الأذن ، والعـين ، والأنف )، أو بـواسـطة أية جـارحة أخـرى ، إلا أن هـذه الحـواس قـد تـخـدع الإنـسان فـيـرى الشيء عـلى غــير صـورته الحـقـيـقـية، وهـذا ما يسمى بخـداع الـنـظـر، أو خـداع البـصـر، وكلـنـا نصاب بهـذا ، فـقـد تـرى العـين الشيء شـئـين ، فـيـظهـر بعـد ذلك أنـه شـيء واحـد ، وقــد تـرى الشيء الكـبير صـغـيرا لـبعـد المسافـة بـين الـرائي والمـرئي والصغـير كـبـيرا للـقـرب بـين الـرائي والمـرئي، وكـذلـك خـداع السماع وخـداع الـشــم وغـيرها مـن الحـواس .
أما الإدراك الحـقـيـقي والـتـصـديـق الحـقـيـقي فـلا يـتـمـان إلا بـقــوة الإدراك الـتي وضعـهـا الله تعالى في الـفـؤاد أي في الـقــلـب ، فـإذا تـم تـصديـق الـقـلـب مـع بصـر العـين أو سـماع الأذن حـصـل الـتـحـقـيـق ، وهـذا باب واسـع خاض فـيه الــذين تـكلـمـوا عـن الـحـواس في الـقـديـم والحـديـث ، وإلى هـذا يـشـير الشاعـر المعـري في بعـض أبياته قائـلا :
والنجـم تسـتصـغـر الأبصار رؤيته
والـذنب للـطـرف لا للـنجـم في الصـغـر
والبيت مـن قـصيـدة مـطـلعها :
يا سـاهـر الـبرق أيـقـظ راقـد الـسمـر
لـعــل بالجـزع أعـوانا عـلى السـهـر
فـنحـن نـرى الـنجـم في السماء بـقـدر درهـم أو ديـنار ، ولـكـنه أكــبر مـن الأرض عـــدة مـرات، والصـغـر والكـبر لـيـسـا حـقـيـقــيـين، وإنما هـما نسـبـيـان، فـهـذه مـرآة تـكـبر الحجـم مـئات الـمـرات، وتـلك تصـغـر مـئات المـرات ، فأحجـام الأشـياء تخـتـلـف باخـتـلاف ما تـرى بهـا والمـدرك الحـقـيـقي إنما هـو الـفــؤاد ، وإلا فـلـيـس لأحـد أن يـقـول للـرسـول صلى الله عـلـيـه وسـلـم : ما أنبأك أن الـذي جـاءك عـلى صـورة دحـية بن خـلـيـفـة الكـلبي أو غـيره هـو جـبريـل عـلـيـه السـلام ؟، وإذن : فالأصل في الإدراك هـو تصـديـق الـقــلـب و بصر الـقـلـب ، وإيـمان الـقـلـب ، وهـذا مـبـلـغ عـلمنا وقـصارى جـهـدنا .
قال الله تعالى : {أفـتـمارونـه عـلى ما يـرى }سـورة النجـم 12، أ فـتجـادلـونه فـيـما رأى ويـرى، وتقــولـون له : إن الـذي يـأتـيـك لـيـس بجـبريـل ؟ ، ولـعـله يخـيـل إلـيـك أن أحـدا يـأتـيـك، لأنهـم قالـوا للنـبي صلى الله عـلـيـه وسـلم ، إذا كان الـذي يـأتـيـك رئي مـن الجـن طـلبـنا لك الـدواء عـنـد الكهـنة والسـحـرة والعـرافـين، فـمتى كانت هـذه الـرؤية ؟
قال عـتـبـة بن ربيـعـة للنـبي صلى الله عـلـيـه وسـلم : ( يا ابن أخي ، إن كـنت تـريـد بما جـئـت به مـن هـذا الأمـر مالا ، جـمـعـنا لك مـن أمـوالـنا حـتى تـكـون أكـثرنا مالا ، وإن كـنـت تـريـد بـه شـرفا سـودناك عـلـيـنا حـتى لا نـقـطـع أمـرا دونـك ، وإن كـنـت تـريـد به مـلكـا مـلـكـناك عـلـيـنـا ، وإن كان هـذا الـذي يأتـيـك رئـيا تـراه لا تسـتطـيع رده عـن نـفـسـك طـلـبـنا لك دواء وبـذلـنا فـيه أمـوالـنـا نـبرئـك مـنه ، فـإنه ربـما غـلب التابـع عـلى الـرجـل حـتى يـداوى مـنه ) ؟ 0 ( ابن هـشام السيرة جـ 2، ص 131) 0
.. للحـديث بـقـية.