* النص القصصي الفائز بالمركز الرابع.

الساعة السادسة صباحاً
الهاتف يرن
... – الوادي دافع جارف، وداخل البلاد.. خبر أبوك يشل السيارة بسرعة.
على الفور علمَ أبي بذلك ،ورأيت في عينيه أنا بتنا أمام فوهة المدفع.
تبعته فورًا.
***
كانت المرة الأولى التي يقتحم فيها الوادي البلدة ، هذا ما بيَّنه عجوزٌ طاعنٌ في السن ، منذ(جرفة صفر)* التي وهي أكبر كوارث الأمطار عنفًا على الإطلاق لم تصل حتى إلى( برج الحصن)، البرج الذي تبدأ به البلدة والذي شيد على صعيدٍ مرتفع قليلًا في حصنها القديم الذي على أنقاضه المتبقية بنى أبي بيتنا البسيط.
الجبال العظيمة التي تحيط بنا باتت كأكفٍّ ممدودةٍ إلى السماء، ما إن تمر غيمة حبلى إلا وعصرتها، فالغيوم الحبلى لا تمرُ كثيرا من هنا . لم يكن لدينا الكثير من السهول، فقط الأودية والجبال التي كنا نصارعها لنشق طريقا ما إلى المدينة، حتى ذلك اليوم الذي رست فيه مناقصة إنشاء الشارع المعبد ، الذي سيعبر من قريتنا ( مِسكن ) إلى الرستاق .
أربعُ سنواتٍ أو يزيد ومرّ الشارع من مِسكن. الشركة التي أنجزت الشارع أتحفته هندسيا، ولم أعلم حينها لماذا قال العجوز : هذا الأمر غير طيب!، كان الشارع جميلا جدا وواسعا، خصوصا عند مدخل البلدة يشطر حوض الوادي بارتفاعٍ متوسط إلى نصفين أحدهما يفضى إلى الوادي والآخر الضيق إلى البلدة ، أذكر أيام بناء تلك القطعة من الشارع أن العجوز رفقة مجموعة من مسني القرية أثاروا زوبعة كبيرة من الاحتجاجات، كانت سخيفة كما قال فتيان القرية وأن : الشياب بايين حد يولفهم ف محرقة، مو دراهم؟ ،فالخباز أدرى بما يعجنه !.
عام 2007 كان المحيط الهندي قد أنجب للتوّ ابنه الغاضب (جونو)، كثيرا ما تردد لي ذلك الشعور من عدم الاكتراث حين متابعة أخباره ف التلفاز ، ما شأننا نحن فجونو كبقية ربابنة البحر غضبوا أم لم يغضبوا أقصى ما يمكن أن تطاله أيديهم المائية هو السواحل. ولكن تيقنت أخيرا أن هذا العملاق لم يأتِ لوحده، بل عبر المحيط بآلاف الغيوم الثائرة التي سترتطم قريبا بصدور جبالنا

***
تقاسيم وجه أبي الصلبة والشاهقة في آنٍ واحد لم تكن لتخبرني شيئا عما قد أخاف منه، فمنذ كنت طفلا لطالما اعتقدت أن أبي أقوى من أي شيء! ، تماما ما أشعر به مع بعض الفخر وأنا أبلغ السادسة عشر من عمري أمامه . ها قد أفطر وتأهب لمغادرة بيتنا إلى الصحراء من أجل العمل كما اعتاد، حينما رن الهاتف.
...........
لم أكد أصل حيث أوقف أبي سيارتنا حتى ..
هل كان البلاغ متأخرا؟؟ الوادي عارم جدا، أحاطَ بسيارتنا تماما ولا مفر البتة.
- جيب السنسلة!!، صرخ أبي.
أدركت تماما أنه لم يعد قويا كفاية وأن اختبارات الثانوية العامة والأحلام البعيدة لا تساوي شيئا، ليذهب كل ذلك إلى الجحيم . أبي يحتاج إلى مساعدتي الآن.
لم أعلمْ أي ريحٍ حملتني لحظتها، فقد عدوت بأقصى ما أملك. واحدة التي كان يسميها أبي بالسلسلة، أما البقية فكان يسميها حبالاً رغم أنها سلاسل كما تبدولي، جررتها من سطح منزلنا ذي الطابقين بأقصى ما جمعت من قوة طيلة (16)عامًا، لم اكترث حتى إن كان وزنها 100 كيلو جرام أم طنا..جررتها وحسب!. أمي فقط تعلم آخر مرة استُخدِمت فيها تلك الأنكوندا الفولاذية ، ليسامحني الله.. لم أُجبها حتى ما حاجتنا لها، ولكنها حتما فطنت أمرا ما . أخذتُ طريقي بها إلى حيث أبي وجذعي النحيل يكاد ينقاد إلى الوراء ، لم أنتبه جيدا لأخي الصغير ابن الرابعة الذي هبَّ لمساعدتي رغم كل سقطة يسقطها، كنت احتاج إلى كل ما يستطيعه بيديه الإلهيتين.
وصلنا.. وجدت أبي يخرج من نافذة السيارة،ولكن.. ماذا يصنع!!، السيارة كانت تبعد كثيرا عن البرج، تبقت أمتارٌ بسيطة لتلتصق مؤخرتها بالبرج.. ماذا فعل أبي؟! الله أعلم.
لففنا السلسلة حول البرج المهيب- طمأننا بعض الشيء- وقبضنا السيارة من مؤخرها بخطاف السلسلة.
حالما فرغنا ورأيت أبي يحرك يديه عبثا.. جيئةً وذهابًا كأنه لم يعد يقوى أكثر من ذلك، والوادي يتقافز ثملاً إلى أقدام برج الحصن ؛ علمت لماذا هذه هي السنسلة كما قال أبي. نظرت إليها، لا يوجد لدينا ما هو أقوى من أيدينا لنتشبث بآمالنا الممددة أمامنا غيرُك!!، كانت ستصحو بعد ذلك أم لا، المهم أن نتشبث بها قدر ما نستطيع وليفعل الله ما يشاء.
كان كل شيءٍ سريعًا.
لا أظن أن أبي فكر بمشروع الشارع المدروس الذي تسبب في ذلك أو في الشركة التي أنجزته أو حتى في المهندس العبقري الذي صممه أم في كيفية إصلاح هذه الكارثة، بل أراهن بأنه كان يتسائل: ماذا بعد ذلك؟!. أمي وأبي ينظران لبعضهما مراراً، والبسيطة العتيقة الممددة أمامنا يتلاطمها الماء الداكن، لم نكترث للبرد الحار أو الحار البارد أو أي شيء ، كانت قد جفت اطرافنا، والسيل أشبه بإبرٍ النخيل تنسل من ملابسنا البسيطة لأجسادنا الخائفة. دون مظلة أو غطاء. لم نكن نشعر بشيءٍ من ذلك أبدًا ، كنا نتأمل فقط!. لم تكن مجرد وسيلة نقل تلك السيارة الأشبه بسيارات نقل الموتى، أبدا لم تكن كذلك!، كانت أشبه بأحد أفراد الأسرة، يكفي أنها تولت نقل أمي يوم ولادتي أو بالأحرى نقلي ، لم تعد بحالة جيدة كفاية الان، ولكنها كانت الأجمل في أعيننا.
بعد ساعات انحسر الماء كاشفا وجه الأرض المشوه ، كانت تبعد عن السيارة مترين تقريبا إلى الأسفل، شرُّ البلية ما يضحك، ضحك أبي والناس حوله. بطريقة ما أخرجناها بمساعدتهم. لا أعلم من قرر أن السيارة تحتضر، أبي أم الوادي أم السيارة نفسها، لا حقَّ لأحدٍ منهم في ذلك لكننا غادرناها وكأن مراسم الدفن انتهت ؛ لنقف على حجم الأحداث، ما كانت الخسائرُ جسيمة! ، عدا أنا خسرنا سيارتنا ومسح الوادي هوية الفلج قُبيلَنا واقتلع عددا من نخيل جيراننا المساكين - غير المحمية ـ وموت بعض المواشي وأضرار متفرقة على نفس المسار، إلى أن ضَعُفَ أخيرًا.
التفت أبي يساراً إلى البعيد الأدنى بعض الشيء - عشرات الأمتار - إلى سور عظيم بناه جدي بمساعدة أهالي البلدة منذ زمن بعيد ، بطول قامةٍ ونصف وعرضٍ يكفي لمرور سيارة كبيرة عليه!. كان رصينًا ومتماسكًا جدًا. ذلك السور الذي سموه بـ (الحِيَالة) أشبه بسد عظيم أمام الوادي وما أتى به. خلفه بيتنا ومزرعة بسيطة لعائلتنا الكبيرة وزريبة أغنامنا وبئر وأشياء جميلة أخرى .
- الحمد لله رب العالمين . قال أبي.
قفلنا عائدين لبيتنا، العجوز ليس ببعيد ، يطل على الحيالة التي تحُولُ بين بركة الوادي الضخمة على اليمين وما تبقى على اليسار، حائرا شاردا فيها وكأنه يحدث فيها القدامى الذين شيدوها.
- سوو دريبة ح الوادي ، أشهد إنه .... (صمت قليلا والتفت إلينا)، سلامتك أنته والأولاد سالم، قال العجوز.
- الله يسلم غاليك من كل شر ، قال أبي. وغادر العجوزُ مباشرة دون أن يضيف شيئا آخر.
ليته أكمل ما بعد (أشهد ..)!. هنا في هذه البلدة الحجرية لا يقول عجوزٌ مهيب تلك الكلمة إن لم يكن يحملُ بعدها أمراً مدوّيا ، شيءٌ ما قبضه!، ولكني شعرتُ برهبة ما أراد . أبي الذي بلغ الثامنة والخمسين يذكر هذا العجوز- منذ وأن بدأ يعي الأسماء وحتى الساعة - كما هو عليه الآن ، لا أحد في القرية يذكر مولده أو نشأته ، دائما ما يبدو امتدادا لشيءٍ ما أبعد مما يبدو عليه، يفكر كثيرا ويعتمر الصمت غالبا، يراه الناس غامضا على أغلب حاله..ليته قال ما يريد ،لعله يفك عقدة من اللواتي يفكر بهن أبي الان .
لبث أبي يومين قبل أن يتأملني ملياً صباح أحد، كان غاضبا وشاردًا وحزينًا، أشبه بجبل (النمر)* في ليلة قمراء باردة يحاول البكاء!!، ودع العائلة، وغادر إلى الصحراء.
***
تناقلت البلدة ، ذاكرة هذا المشهد الطريّ وكيف أن الوادي بات يطال البلدة بقبضة مرعبة ،حتى أصبح أغلب أهالي البلدة محللين ومهندسين لكثرة ما قاموا بالتعليل والتأويل ، دون طائل .
بلغنا في وقت لاحق أن الحكومة الرشيدة تعوض المواطنين المتضررين إثر حوادث تسببت بها منشآت تنموية وأنه يمكنهم المطالبة بإصلاح الضرر المترتب ، أشياء معقدة بالنسبة لي ، ولكنها تبدو مجدية لأهالي قريتنا الذين - في مقدمتهم أبي ـ استمروا مُجدِّين للحصول عليها حتى سئموا . طيلة تلك الأيام كان الوادي يزورنا بين الحين والحين ، يقتحم البلدة في تكرارٍ مبسط لتلك الحادثة وبشكل متفاوت،أما سور جدي فكان منيعًا للغاية رغم حجمه وصلابته كان يمتص غضب الوادي وعرامته بكل عجائبية وينفث من خلال منعته الماء النقي وكأنه مليءٌ بالثقوب! ، يخفض منسوب المياه الثائرة إلى مستوى آمن ، كان غريبا جدا ، يقال بأن الأجداد لم يضعو فيه ولا لمسة طينٍ واحدة وأن حجارته العملاقة والصغيرة جمعت بدقة متناهية من أماكن مختلفة ، ليس جميلا حتما ولكنه يحمل سرًّ يملؤنا بالسحر دائما ، كان إرثا ثمينًا جداً للذين عملوا فيه خاصة، ما كنت لأعلم كل ذلك لولا العجوز !.
***
مرّ قُرابة العام على غضبةِ جونو!، حتى ألفنا زيارات الوادي ، كنت قد أصبحت أكثر نضجًا لأفكر أكثر مما أحلم!، في كل مرة أمر من المنطقة التي تتسبب بهذه الكارثة، اتساءلُ ورائحة الماضي في أنفي: إن كانت هذه الشركة هي الخباز!، فلم لم تنصت لأهل هذه الشِعَاب، لماذا؟ لعلهم كانوا يرون خطة مستقبلية في ذلك، فلم يسبق لهم أن رأوا واديا مهيبا يعبر ذلك المضيق الذي أنشأوا فيه مشروعهم.
أتت إناث السماء في زيارة موسمية جديدة، وزايلنا الخوف الذي ألفناه كعادتنا، إلا أنه ما بعد جونو؟، لا بأس الوضع أحسن حالًا .
الساعة الثامنة ليلاً، لا تيار كهربائي.
زئير الريح حمل إلينا أصوات الليل الجريحة! الرعد والبرق يجترحان الليل على سفح النمر .
الساعة الحادية عشر ليلاً، كان الطقس قاتم الملامح لا أذكر سوى أننا كنا قد نمنا أو نحاول النوم ربما، حينما هدر صوت مدوي يخترق قلوبنا قبل أسماعنا، صوت الوادي كان مألوفا، إنما صوتُ الانهيار الجبلي ليس مألوفًا أبدا.
- الله يستر.. قالت أمي وخرجت تطلُّ من الشرفة، وقفت إلى جوارها.
الصوت والمشهد يتعملقان معا، الوادي بكل عظمته يردح بيتنا الضعيف.أمي تنظر لي وكأنها طفلتي التي أضاعتني في الظلام. أشرت دون تردد وبصوت صاخب بين كل تلك الأصوات المرعبة :
- تنقلو الغرفة الثانية. الغرفة في الطابق الثاني لبيتٍ واهن تطل ملاصِقة مباشرةً على الوادي.
- كلنا؟
- ....... ، كنت غاضبا جدا ، ولا أعلم ما هو الصواب لفعله!! .
أمي بصوتٍ مخنوق تشير للجهة المقابلة بعد ضاحيتنا الصغيرة عبر الوادي ،! ماذا عسانا نفعل للغنم يا أمي ونحن لا نعلم ما سنفعل من أجلنا!.
أمعنت النظر..ياللهول ! ، امتلأت بآلاف الأصوات وأنا أذرع البيت جيئة وذهابا ،أتفقده كربانٍ يسبرُ حال سفينته الهالكة التي يتلاطمها الموج ، عدا أني لم أكن ربانًا أبدا، لا أعلم ما أصنع ولا ما يصنع الوادي تحتنا. لست متأكدا إن كان صوت صراخ الأجداد الذي أسمعه حقيقيًّا أم لا ، لكني كنت متأكدا أن حوافرَ الهلاك باتت تقدح أرضنا الجميلة ، هل هذا غضب الله ؟ لطفا أيها الرحيم..لا تغضب أكثر!، أنا المسؤول الآن عن 10 أرواح في هذه الغرفة، نحشر فيها أجسادنا المرتعشة إلى بعضها البعض ولا تكفي لذلك ، ..وكأنها أشفقت فاتسعت!!.
- أحس البيت يهتز، قال الرجل الأصغر مني سنًا.
صمتي الطويل أخبرني أنها الحقيقة. إخوتي ناموا أم تظاهروا بذلك، كنت أسمع أصوات أنفاسهم الخائفة فقط !. ترى هل كل الخائفين كذلك ؟ تهربُ الوحشةُ إلى مادة أجسادهم وأرواحهم . هل هناك أحدٌ ما في هذا الليل الدامس يشعر بآلامنا؟.هل..،أكثر من هل ثقبت قلبي ، وأمضيت الليل غارقًا في القلق كأمي.
أمي ؟!، تحاشيت الحديث معها فقد كانت طفلتها التي طمرتها السنون قد طفت وأصبحت شفافة جدا، سأجرحها لو تحدثت ، كنت عانقتها لوأدركت ما يحدث أو كيف لكني كنت مذعورا ، أما هي فكانت تعي جيدا ، بل متيقنة تماما مما يحدث . قرأتها طويلا وهي تقبض غطاء رأسها متأملة الظلام ، رفضت الغرفة التي آوينا إليها، تكاد تسقط ثقلا وأكاد أشم رائحة حرائق صدرها ،شعرت بنشيج الخوف الذي يقطع أوصالها من أجلنا نحن العشرة إلى أن عصبت شفتيها جيدا وتماسكت بحزم محدقةً إلى البعيد!. أبي كان بعيدًا جدا، مئاتُ الكيلومترات تحملُ إليه الريحَ والخوف والقلق، وحزن أمي. كيف هو هناك؟ ، ماذا يصنع ؟ ..هل يشعر بنا ؟ .. لا نعلم ،ولكن ليته معنا الآن!!.
شعرت بأن الوادي يمحو كل شيء تلك الساعة ، يقضي كل ما يريد من البلاد ، يسحق وينسف ويغرق!!،شعرت بأن الوادي لن يبيقي معنى للأشياء ، هو أيضا يدمره الآن ، كنت متيقناً أني لستُ الوحيد الذي يصغي لذلك ..وينتظر!، فلا السيل العارم ولا الصواعق الهادرة ولا الوادي الجارف كانوا يسمحون بالبقاء في البيت أو بمغادرته؛ كانوا يسمحون بالخوف والانتظار فقط !.
مع باب الفجر الأول وبين كل ذلك الصخب سمعت صوت العجوز!، أسرعتُ حين قابلته على ضوءٍ باردْ ، بدالي واثقا من أمرٍ ما ، نظر إليَّ بعمقْ:
- طاحت الحيالة ؟! .
التفتُ ورائي فجأة ، وكأني أسمع للتو صوت صراخٍ عتيق وانهيارِ جبل.
- طاحت !!، قلت وأنا أشعر بالحسرة.
لم أكن متأكدا من ذلك كما لم أُتأكد ما إن كانت تلك دموعه الشاحبة على مدمعيه أم هي مسُّ المطر الغاضب ، كان مظلما بعض الشيء.
- تعالوا بيتنا ، قال.
مقتضبا وجافًا كعادته ، شعرتُ بالإهانة ، التفتُّ إلى الظلمة خلفي مجددا ، أتحسس الماء البارد الذي انتصف على ركبتي، كنت أضجُّ بقلة خبرتي وحيلتي ، كانت أمي قريبة مني جدا!، وكأنها تقول على ضعف "ما باليد حيلة "، أبي ليس هنا .. وأنا من يجب أن يقرر .
كهرباءٌ ماردة تنخر عظامي وأنا منتصب الجسد تائه الروح ، ترى هل سنهرب هذه المرة فقط ؟ أم سنظل نهرب إلى الأبد !!.
نظرتُ إلى أعينهم جيدا ، أخواتي الأكبر مني سنا والبقية الذين يصغرونني وأمي . رأيتُ ما لم أتمنَ رؤيته من قبلْ ، ..رأيت وحسب . تحسست المفتاح جيدا وأومأت إليهم جميعا : لنرحل !.
كان ما يزال واقفا في أعلى الطريق بعصاه الغليظة ، ذا هامةٍ متمردة ، يومض البرق خلفه ويتشظى الظلام ، والسيلُ يتثلَّمُ على هامته كأنه لم يكن موجودا أصلا !!.
- تبعوني ، قال العجوز .
لم يكن يدلنا باب بيته الذي اعتدناه ، هذا الطريق أقرب إلى فناء بيته الخلفي. كنا نُغرِقُ في الصمت والبرد والمطر طوال الطريق. هاهم حول النار وتحت هذا السقف المحكم .
- تفضلوا أولادي ..اتبعني انته!، قال العجوز.
أكاد أتجمد عند العتبة التي عبروها وبقيت خارجا ، حسنًا سأتبعك .. كم بقي على هذا اليوم لينتهي ؟! ، ألا تشعر بهذا الوابل الذي يصطخب حولنا ؟ إلى أين ؟ وكأنك تجرني لباب بيتك الآخر، حسنا.. سأتبعك أيها العجوز ، وكأنه سمعني حين توقف والتفت إلي :
- بنيناها أنا وجدك رباعة ،قال العجوز ومضى بي.
بالتأكيد قصد الحيالة وهو يلفظها بثقل بالغ .
- أنا أيضا آسفٌ لانهيارها ولكن هل ترى أن الوقت مناسبٌ للحديث عن ذلك ، ألا ترى بأنّا نخسر كل شيء !، فكرتُ بصمت .
- إذا احتجتوا شيء يا ولدي خبرنا ، قال العجوز .
شد حلق باب بيته :
- تفضل يا ولدي ، قال.
دخلت ، فوجدتُ أبي مبللاً ممددًا

هوامش :

*جبل النمر: أحد أعظم جبال المنطقة وراء تسميته بهذا الاسم أسطورة غابرة.
*جرفة صفر: أحداث أمطار عارمة حصلت في فترة زمنية غابرة.

أحمد بن سالم الكلباني