يؤكد على أمانة المترجم تجاه فكر المؤلف
ما ترجم من الألمانية إلى العربية ينصب في مجال الشعر والمسرح وما يتعلق بالحكايات الشعبية الألمانية لا يكاد يذكر
دمشق "أشرعة" :
يعتبر الدكتور نبيل الحفار من أهم المترجمين في سوريا والوطن العربي من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية، ويحمل دكتوراه في الفنون المسرحية من جامعة هومبولت في برلين. وهو مؤسس مجلة الحياة المسرحية إلى جانب سعد الله ونوس. له 65 كتابا مترجما عن الألمانية ونال جائزتين عالميتين في الترجمة كما نشر عددا من المقالات والدراسات في النقد المسرحي والأدبي وهو يتقن اللغات اللاتينية والإنجليزية واليونانية القديمة والفنلندية والسويدية ويلم بالفرنسية. نال مؤخرا جائزة الدولة التقديرية عن مجمل أعماله في الترجمة والبحوث والنقد لعام 2014.
في لقائنا معه يؤكد الدكتور الحفار أن عدد المترجمين من اللغة الألمانية إلى العربية قليل جداً محلياً وعربياً، مقارنة مع اللغات الأخرى، الانجليزية، الفرنسية، الروسية، الاسبانية، وهذا ما لمسه لمس اليد أثناء مسابقات معاهد غوته الألمانية، مبيناً أن عدد المترجمين من الألمانية قليل جداً، وأن المتميزين منهم أقل بكثير، خاصة أن المكافآت التي تُقدَّم في سوريا للترجمة ما زالت قليلة جدا،ً ولا تستحق الذكر، ولذلك عفّت نفوس الكثير من القادرين، والمتميزين منهم عن هذا الجهد نهائياً، في حين قامت معاهد غوته في الوطن العربي منذ ثلاث سنوات بخطوة لتشجيع الترجمة من الألمانية إلى العربية بتقديم مكافآت مجزية إلى المترجمين بعد أن قسمتهم إلى محترفين، ومترجمين شباب ذوي تجربة جديدة، مؤكداً أن النتائج كانت لافتة للنظر، وقد بدأ عدد المتقدمين للمسابقات يزداد سنوياً، مبيناً أنه كان يُفتَرض بالجهات المعنية أن تولي جهداً أكبر تجاه هذا الموضوع دون أن ينكر أن البعض انتبه لذلك، وإن كان متأخرا، فتأسس قسم اللغة الألمانية في جامعة دمشق، إلا أن قلّة الأساتذة السوريين المتوافرين، القادرين على التدريس؛ حالت دون إيجاد خريجين متميزين، قادرين على تقديم جهد لافت على هذا الصعيد.

الشعر والمسرح أولاً

ومن خلال ترجماته الكثيرة، واطلاعه الواسع على الأدب الألماني، يبيّن الدكتور الحفار أن فلسفة الأدب في الفكر الألماني، والتنظير الأدبي متطوران جداً، وهذا ما لم يُلتَفَت إليه على صعيد الترجمة، علماً أن الجميع يعرف أن الفلسفة الألمانية من أوائل الفلسفات المتطورة عالمياً، إلى جانب الفكر الموسيقي والتشكيلي، موضحاً أن جلّ ما تمّت ترجمته من الألمانية إلى العربية ينصبّ في مجال الشعر والمسرح، وأن أجناساً كثيرة لم يتم الاهتمام بها كفاية، خاصة ما يتعلق بالحكايات الشعبية المشهورة بها ألمانيا، والمنطقة الألمانية، ويأسف أن ما تُرجِم من هذا التراث إلى العربية يكاد لا يُذكَر.
وحول تقييمه لما تُرجم على صعيد المسرح، يؤكد الحفار أن ترجمة المسرح، مقارنة مع الأجناس الأخرى، كانت مرضية نوعاً ما، فالمصريون، ومنذ الستينيات، اهتموا بهذا الجانب، وترجموا المسرح الألماني عن اللغة الانجليزية، أو الفرنسية، لأن العارفين بالألمانية كانوا قلّة، وانتبهوا إلى أهمية هذا المسرح، والأسماء الكبيرة المبدعة فيه، ولاسيما في القرن العشرين، فقدموا ترجمات هامة من خلال روائع سلسلة "المسرح العالمي"، وبعض المحاولات القليلة التي قُدِّمَت في سوريا.
ولأن الترجمة في مجال المسرح تحتاج إلى معرفة خاصة بلغته، والحوار فيه على المترجم، برأي الدكتور الحفار، أن يفكر دائماً بالممثل الذي سينطق الجملة على خشبة المسرح، موضحاً أن الجملة هنا ليست في رواية أو قصة، وإنما أولاً وأخيراً يجب أن تُنطَق، وتُفهَم بسهولة بمجرد سماعها دون مراجعة من قِبل المُشاهِد الجالس في المسرح، حيث لا وقت لكي يفكر بالجملة مرتين، من هنا يجب أن يحرص المترجم على أن تكون لغته سهلة، تدخل إلى عقل المشاهد مباشرة، لأن توقفه أثناء العرض عند جملة، أو كلمة غريبة يشتت انتباهه عما سيرد لاحقاً، وهذا إن حصل فهو خطأ كبير، إذاً يجب على المترجم المسرحي، برأي الحفار، أن يفكر أولاً في العرض، ومن ثمّ بالترجمة الأدبية، مؤكداً أنه كمترجم في هذا المجال لا يهتم بالترجمة الأدبية، وإنما بلغة التوصيل، والتواصل مع المشاهد ليؤثر فيه، أما عندما ينصبّ اهتمام المترجم على الأدب في المقام الأول، فمجاله يكون في الشعر، أو القصة، والرواية، وليس في المسرح، لأن المسرح هو فنّ في المقام الأول، ومن ثمّ لغة.

المترجم والطموح

ويبين الدكتور الحفار، وهو الذي ترجم مؤخراً ثلاثة كتب، (مسرحيات للفتيان)، أن كل فئة عمرية لها خصوصية من حيث المستوى الثقافي، واللغة التي سيخاطب فيها المترجم هذه الفئة العمرية، فلا يمكنه أن يستخدم لغة عالية المستوى حين يتوجه للأطفال والفتيان، ويجب أن يأخذ بعين الاعتبار مناهجهم التعليمية، وإلى أين وصل مستواهم اللغوي، وما هي المفردات، والمصطلحات المتعارف عليها في المناهج التعليمية، وفي الوقت ذاته يجب أن يكون المترجم طموحاً ليقدم لهم شيئاً جديداً في المسرح، ولكن دون أن يكون عسيراً ليحفزهم على المتابعة، منوهاً كذلك إلى أهمية معرفة الناحية النفسية لهذه الفئة العمرية، والخلفية الاجتماعية، لتكون الموضوعات التي سيطرحها المترجم قريبة من هذه الفئة، وخصوصيتها في بلدانها، من هنا يبيّن أنه استهلك عاماً كاملاً في انتقاء المسرحيات الصادرة له حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب في وزارة الثقافة، والتي يتوجه بها للفتيان، مشيراً إلى أنه اختار هذه المسرحيات من بين مجموعة كبيرة من المسرحيات التي وفرتها له معاهد غوته في دمشق، والقاهرة، والاسكندرية، لينتقي ما يراه مناسباً للفتى العربي بشكل عام، والسوري بشكل خاص، منوهاً إلى أن مجال الانتقاء يأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات المتوافرة أمام الفتى العربي كتعامله مع الكومبيوتر، والأقراص المدمجة التي دخلت إلى مجتمعنا، بحيث بات فتياننا أسرى للشبكة العنكبوتية، وقد قدّم الدكتور الحفار ضمن كتبه الثلاثة الجديدة نصاً مترجماً من هذا النوع بعنوان "هيكيكو مودي"، وهو مصطلح ياباني يُطلَق على الشاب الغارق في العالم الافتراضي، والمنعزل عن مجتمعه وأسرته.

ضد التدخّل في النصّ المترجَم

ولأن الدكتور الحفار ليس من أنصار التدخل بالنص المترجَم، يؤكد على أن المترجم منذ البداية يجب أن يكون حذراً في الانتقاء، أما إن اضطر لكي يتصرف بالنص، أو يقوم بعملية إعداد له أثناء الترجمة، فعندها برأيه يجب ألا يُطلَق على ما يقوم به "ترجمة"، وإنما هو "إعداد"، وهذا يعني أنه يتدخل بوجهة نظره الخاصة كابن لهذا المجتمع بالنص، ليقدمها لابن مجتمعه، وهو بذلك لا يحق له أن يسمي ما يقوم به "ترجمة"، لأنه حينما يفعل ذلك يتجاوز عمل المؤلف الأصلي، وبالتالي فإن الترجمة تعني أن يحافظ المترجم على حقوق المؤلف كما هي، موضحاً أن نظرية الترجمة تقول بوجود مستويات متعددة فيها، فهناك الحرفي الذي لا يحبذه الحفار عامة لا في الشعر، ولا في النثر، مع تأكيده على أنه يجب أن يكون المترجم أميناً لفكر المؤلف، أما على صعيد اللغة فيشير إلى أن للّغة الألمانية قوانينها، وهويتها، وكذلك للعربية، وهو عندما يترجم ينتقل من بنية إلى بنية، ومن مخزون لغوي إلى مخزون لغوي آخر، من هنا يحق له على هذين الصعيدين أن يتصرف كمترجم، وهو إن قام بذلك سيبقى أميناً للمؤلف، ولو سُئل هذا المؤلف لأكد أن ما يريده هو نقل خبرته إلى مجتمع آخر، وليس التمسك بحرفية لغته، من هنا أيضاً فإن من يقرأ النصوص التي ترجمها الدكتور الحفار، ستظهر له وكأنها مؤلَّفة باللغة العربية، في حين أن نصوصاً أخرى لمترجمين آخرين تبدو مترجَمة منذ الوهلة الأولى لانعدام السلاسة في النص، وهذا لا يجوز في الترجمة، لأن الترجمة برأيه فنّ، وأدب، ويجب أن يهضم المترجمُ المؤلفَ هضماً كاملاً، ومن ثمّ ينساه في لغته ليعيد إبداعه ثانية باللغة التي يتقنها.

رواية "العطر"

وعن النجاح الكبير الذي حققتها ترجمته لرواية "العطر" لباتريك زوسكيند، يبيّن الدكتور الحفار أن النجاح يعود بداية لخصوصية الرواية من حيث تناولها لحاسة الشمّ، وشخصية البطل النقيض (غير الإيجابي) غير المتداولة بمفهوم البطل عادة، ولكنه يظهر بالفعل أنه البطل في هذه الرواية من خلال نوعية الجرائم التي يرتكبها، بالإضافة إلى الخصوصية اللغوية للمؤلف التي ترافقت مع خصوصية الترجمة التي أوصلت الدكتور الحفار إلى وضع معجم خاص للعطور، وأنواع الروائح باللغة العربية، ليتمكن من ترجمتها، لأن القواميس الموجودة بين يديه لم تسعفه بذلك، فاضطر إلى مواكبة العطارين في سوق البزورية لمدة 3 أشهر للتعرّف على الطرائق التي يتبعونها في استخراج العطور، مؤكداً أنه كان لابدّ من خوض تجربة المؤلف حتى يتمكن من ترجمة ما كتبه وعاشه هو أيضاً، مؤكداً أن غرابة موضوع الرواية لم تثنه عن ترجمتها، وقد كان ذلك حافزاً له للترجمة، خاصة أن كاتب الرواية كان مبتعداً عن الإعلام كلياً، وقد شكّلت روايته حين صدورها صدمة كبيرة تحولت مباشرة لكي تكون الرواية الأكثر مبيعاً، وقد تُرجِمت لنحو 23 لغة، وكانت الترجمة العربية الأولى لها عام 1993 من قِبل المجمع الثقافي في أبو ظبي، لتكون ترجمة الدكتور الحفار الثانية لها من خلال دار المدى بدمشق بعد نحو عشر سنوات من صدورها. ويشير الدكتور الحفار إلى أن كاتب الرواية ألمانيّ مقيم في فرنسا، لذلك تدور أحداث الرواية في فرنسا أواخر القرن 18، وقد سلّط الضوء من خلالها على أوضاع اجتماعية متعددة، وقدم عينات بشرية مختلفة بسلوكها، ومعتقداتها، بحيث وصل إلى عمق النفس البشرية، ليس من خلال شخصية بطله فقط، بل من خلال كل الشخصيات التي تعامل معها البطل.

طباعة المنتوج المترجم

وعن مشروع الترجمة الرائد الذي أطلقته الهيئة العامة السورية للكتاب منذ سنتين تقريباً، يبين الدكتور الحفار أنه ظلّ رائداً في فكرته، لكن المشكلة كانت في التمويل، وهذا أبعد أهمّ المترجمين عنه، في حين كان المطلوب جذبهم ليقدموا إبداعاتهم، والمساهمة في إنجاز المشروع القومي للترجمة، موضحاً أن المترجمين عندما عرفوا أن تعرفة الترجمة لم تتغير على الإطلاق منذ سنوات، لجؤوا إلى الخارج لتقديم ترجماتهم، خاصة أن معظم المترجمين المهمين متقاعدون، ومعظمهم يعيش من ترجماته، لذلك فإن عدم وجود مردود كاف من الترجمة حثّهم على التوجه باتجاهات مختلفة، من هنا يرى الحفار أنه من الضروري أن يتعاون الجميع لتقديم دعم مادي كاف، إلى جانب الإسراع في طباعة المنتوج المترجم، بدلاً من بقائه في المطابع فترات طويلة.

إصدار

ويختم الدكتور الحفار، منوهاً إلى أن المطابع في الدول الأوروبية، وأميركا، تقدم سنوياً كميات هائلة من الأعمال التي لابدّ من متابعتها للوقوف على المهم منها، ومن ثمّ قراءتها، وهذا قد يتم عن طريق الإنترنت، الوسيلة الأفضل اليوم لمتابعة ما يجري في العالم على صعيد الأدب، والفكر، والعلوم، ولذلك لابدّ للمترجمين من أن يتابعوا ما يصدر بشكل دائم، وأن يبحثوا طويلاً، وألا يعتمدوا في اختياراتهم على الصدفة فقط ليكونوا متابعين، ومواكبين لما تطرحه دور النشر العالمية، ومستعدين لتقديم الاقتراحات، مشيراً إلى كتابه الذي سيصدر قريباً عن مشروع "كلمة"، وهو بعنوان "أطلس رجل يتوخى الدقة"، وهو ينسبه تجاوزاً إلى أدب الرحلات، لأنه يتحدث عن تجربة شخصية للكاتب على صعيد الرحلات التي قام بها في أنحاء مختلفة من العالم من خلال قصص قصيرة لتجارب إنسانية مع الآخر.