[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
أبو سمير وفي حياته المهنية كان موظفا بسيطا في مجالات مختلفة, لكنه بالنسبة للقضية النضالية والعطاء المتواصل مثل الغيث المنهمر من غيمة لا ينتهي تواصل عطائها, لذا أعتبر أن تطابقا كثيرا بين اسم عائلته وبين عطائه. كان غوثا وطنيا لرفاقه وبخاصة في أوقات المعاناة: في تحفيزهم وشحنهم على الصمود والاستمرارية في الكفاح.
رحل عنا حمدي مطر, الاسم والرمز الوطني والثوري الفلسطيني إثر مصارعته للمرض, أبو سمير تعرفه جماهير شعبنا الفلسطيني وعديدون من أبناء أمتنا العربية: رمز, اندغم بالنضال الفلسطيني منذ نعومة أظفاره... انتمى مبكرا إلى حركة القوميين العرب, كان أحد روادها وقادتها. فيما بعد كان من المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ظل حتى الرمق الأخير وفيا لمبادئه وثورة شعبه وحقوقه الوطنية. غادرنا هذا المناضل الصلب منذ أكثر مما يقارب الشهرين. كان نشيط الحركة رغم تقدمه بالسن, يتكئ على عصاه بسبب صعوبة المشي والحركة ويقوم بأكثر من مهماته.
كان دوما يزاوج بين المهام النضالية والواجبات الاجتماعية تجاه رفاقه: يعتبرهم أبناءه, يتصرف تجاههم ليس كقائد وطني فحسب وإنما كأب حنون... حمدي مطر قامة شامخة, مناضل فلسطيني وعربي تسكنه الصلابة والصمود, قضى ما يقارب أكثر من عشر سنوات في السجون التي دخلها مرارا في مراحل مختلفة من حياته. ارتبط تاريخيا مع ثنائية الآخر المناضل عزمي الخواجة (أطال الله في عمره) ولكثرة اعتقالهما معا كنت تستغرب أن يكونا خارج السجن! لم يثنِ ذلك ولا المضايقات المستمرة, المناضل حمدي مطر عن الإصرار على مواصلة النضال.
أبو سمير يعقوبي ثوري امتلأ إرادة وتحديا في مواجهة أعدائنا، وفي نفس الوقت مناضل عاطفي يبكيه موقف إنساني بسيط. بوصلته أشّرت دوما باتجاه فلسطين, كل فلسطين من النهر إلى البحر. يمقت المفاوضات مع العدو الصهيوني. يؤكد دوما على الكفاح المسلح كنهج وحيد للوصول إلى حقوقنا الوطنية, وكأسلوب وحيد للتعامل مع العدو الصهيوني, الذي لا يفهم غير لغة القوة. في التجمع الأخير لرفاقه في الجبهة الشعبية ... ما زلت والآخرون نذكر وصيته لرفاقه وأبنائه: استذكار المبادئ الأساسية التي انطلقت الجبهة من أجلها, عقم المفاوضات مع العدو, التمسك بالكفاح المسلح, التمسك بالحق في كل أرض فلسطين, مواصلة الثورة, أهمية تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية, الوفاء لشعبنا الذي قدم التضحيات الهائلة على مدى التاريخ. الوفاء للشهداء, العمل على تحرير الأسرى. بكلمات بسيطة لخص أبو سمير مواقفه, لكنها سعة أفقه وتجاربه الثورية ونضالاته الكبيرة والحرص على المضي قدما حتى تحرير أرضنا وانتزاع حقوقنا. هذه المبادئ الثورية الفلسطينية الأصيلة كانت تسكن خلفية رأسه واستعارت لسانه للنطق بالكلمات. كان من الطبيعي أن نقف دقائق طويلة تصفيقا للمناضل حمدي واحتراما له, لكن من زاوية أخرى: اعتراني الحزن تحسبا ربما للإحساس المبهم, باقتراب موعد رحيله عن عالمنا.
تعرفت على حمدي مطر منذ فترة طويلة. في اللقاء الأول وعندما أعربت له عن سعادتي بلقائه, أجابني: بأنه يعرفني (ليس عن طريق السمع وحده وإنما مباشرة). استغربت ذلك! ذكّرني بمجرد رؤيتي بشقيقي (وأنا أشبهه كثيرا) عضو الحركة وأحد مسؤوليها منذ أواخر الخمسينيات, وبأنه زار مدينتي قلقيلية وتغدى في بيتنا الأكلة الشعبية الفلسطينية (المسخّن)... واستطرد بأن ذلك كان في أوائل الستينيات. استذكرت حينها عندما جاء رجال كثيرون من الحركة يومها إلى بيتنا. كنت طفلا ابن عشر سنين. سلّمت عليهم دون معرفة أسمائهم. أسوق الحادثة للتدليل على ذاكرة حمدي مطر التي ظلّت مشتعلة حتى أواخر أيام حياته. إنه موسوعة للأحداث الفلسطينية التي عاصرها. كنت أنا من بين كثيرين ممن طالبوه مرارا بتسجيل تجربته في الحركة والجبهة والثورة. ترافقنا وتزاملنا في النضال حتى قبيل رحيله بقليل حيث غادرنا وقد كان لنا معلما وأبا ورفيقا وقائدا حانيا على أبنائه. كان تجسيدا لأصالة الانتماء للوطن وللقضية, أبحر سابحا باتجاه فلسطين.
مما لا شك فيه: أن من يتحدث عن المناضل الراحل حمدي مطر .. لا بد له من التطرق إلى زوجته: المناضلة أم سمير: أخت المناضلين وأمهم فيما بعد, والتي تحملت وعن قناعة نمط حياة زوج مثل حمدي مطر, وقد كان مرهونا بها وحدها مسؤولية الإشراف عن أبنائهما وبناتهما. كانت دوما الداعم والمحفز له لمواصلة العطاء في سبيل شعبه.
أبو سمير وفي حياته المهنية كان موظفا بسيطا في مجالات مختلفة, لكنه بالنسبة للقضية النضالية والعطاء المتواصل مثل الغيث المنهمر من غيمة لا ينتهي تواصل عطائها, لذا أعتبر أن تطابقا كثيرا بين اسم عائلته وبين عطائه. كان غوثا وطنيا لرفاقه وبخاصة في أوقات المعاناة: في تحفيزهم وشحنهم على الصمود والاستمرارية في الكفاح. أبو سمير ... نفتقدك أيها الشامخ دوما بعشق فلسطين. الوطن يسكن خلايا جسدك كلها. ما يعزينا بعد رحيلك: ذكراك العطرة ومواقفك الثورية في كل محطات حياتك, قدرتك الدائمة على تحويل أعقد المواقف المحفزة للتوتر إلى ابتسامة ضاحكة, وكأنك الإسفنجة التي تمتص كل توتر, وبعد تدخلك كالعادة يعود الوئام والصفاء إلى الجميع. أبو سمير: أحباؤك (كما كنت تحب مناداتهم دوما) سيواصلون السير على نهجك, وسيظلون الأوفياء للمثل التي امتشقتها. وللمبادئ التي ربيتهم عليها. أبو سمير: لا نقول وداعا, فأنت حي فينا.