لقد كان لجدتي أربعة دنانير هي كل مدخراتها عندما كان الدينار العراقي يحكي ـ وهو توصيف مجازي عن ارتفاع سعره ـ وكانت هذه المرأة الريفية الفقيرة تتفقد تلك الدنانير الأربعة في أعماق وسادتها بين فترة وأخرى خشية أن تتسلل إليها (حشرة العث) الصغيرة جدا فتلتهمها.
[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]

مع كل ما يحيط إعادة إعمار المناطق العراقية المنكوبة بفعل الإرهاب والعنف المسلح، يظل التخطيط والتنفيذ حافلا بالتجاذب الأزلي بين الحسم والتسيب والإشباع المفتوح بالفساد، وكأن الوضع في هذا الشأن أحد أقدار العراق مع الأسف.
ليس هناك أية خطة جدية بتوقيتات معروفة في التصدي لكل آثار الدمار، وإذا كان لا بد من التفصيل يصبح من حق محافظة نينوى أن تحتل الصدارة في الشكوى من تأخر المعالجة الإعمارية أصلا، لكن الأخطر من ذلك أن هناك نكبة ما زالت منسية جزئيا في الحسابات المعدة لهذا الهدف.
لقد تصدر المشهد إعمار البنى التحتية البلدية، وإعادة تشغيل بعض المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية، وترميم بنايات وإصلاح طرق، في حين أن (إبادة جماعية) طالت مخطوطات ومعالم تراثية وحضارية أخرى وكل ما يتعلق بالممتلكات الذهنية.
سأكون أكثر تمهيدا في ذلك والبداية من تصرف امرأة عراقية (يعمل) زوجها لصا متخصصا في سرقة المخطوطات والوثائق السرية والآثار المعرفية الأخرى والمتاجرة بها.
لقد حوّل منزله إلى مخزن متقدم لهذه الشواهد العراقية التي سرقها وفي أكثر من (مناسبة) واحدة من مناسبات التنظيف التي تعتمدها زوجته لجأت إلى استخدام بعض أوراق الوثائق لتنظيف زجاج المنزل، كما لم تتورع من الاستعانة ببعض المخطوطات النادرة لوضعها تحت مناضد أو خزانة ملابس أو طباخ أو براد من أجل تثبيت استقرار تلك الأثاث، فهي تسحب بين فترة وأخرى مخطوطة من المخطوطات المسروقة لهذا الغرض وتعمل ذلك بفرح بليد، ولي أن أضيف مشهدا مفصليا رأيته بالعين المجردة خلال ثلاث جولات زُرت فيها الموصل وبغديدا وتلكيف وتلسقف وبرطلة من حواضر محافظة نينوى ذات الكثافة السكانية الكلدانية السريانية الآشورية، كان ركام المخطوطات والأيقونات النادرة والفخارات المدمرة مشهد كارثةٍ بكل ما يعني هذا التوصيف من دقة، بل إن النقوش والمنمنمات في أعالي جدران داخلية وسقوف مساجد وكنائس وأديرة قد أوصلوا نيران النفط الأسود لها، وروى لي أحد سكان الموصل، أن مسلحين كانوا يتمتعون (بالرقص الديني) على حافة نيران أكوام الكتب والمخطوطات بعد أن يجمعوها من المكتبات الملحقة بالمقامات الدينية ثم تبدأ حفلات الحرق، وكأنهم بذلك يستكملون ما حصل من تدمير بالماء ضمن متوالية أقدم عليها التتار عند احتلالهم بغداد في القرون الوسطى، فقد أمر هولاكو أتباعه بجمع آلاف المخطوطات والمعالم الأثرية النادرة ورميها بنهر دجلة على أمل أن يشيد جسرا منها على النهر، وهكذا اصطبغ سطحه بالأحبار وضاعت تلك الثروة في كارثة لم يترك مدون تاريخي فرصة آنذاك للحديث عنها.
تقول الباحثة الأكاديمية في جامعة هاواي ريبيكا نورث في كتابها (إبادة الكتب) أن هذا النوع من الإبادة ليست مجرد جرائم عشوائية يرتكبها برابرة وظلاميون، بل وسيلة من وسائل شن حروب تتسم بمنهجية متواصلة لتوظيف العنف في تكريس إفقار الأذهان، هذا عن كارثة رصيد العقول فماذا عن رصيد الأموال؟
لقد كان لجدتي أربعة دنانير هي كل مدخراتها عندما كان الدينار العراقي يحكي ـ وهو توصيف مجازي عن ارتفاع سعره ـ وكانت هذه المرأة الريفية الفقيرة تتفقد تلك الدنانير الأربعة في أعماق وسادتها بين فترة وأخرى خشية أن تتسلل إليها (حشرة العث) الصغيرة جدا فتلتهمها.
كانت جدتي على معرفة (عظيمة) في حماية تلك المدخرات، السؤال هنا: كيف فقد مسؤولو البنك المركزي العراقي حسن التدبير حتى وإن كانت بأبسط صورها فأتاح إهمالهم غرق سبعة مليارات دينار عراقي بمياه الأمطار؟
إن الحقيقة الإضافية هنا أن هؤلاء المسؤولين الماليين تنكّروا لأبسط إجراءات المتابعة.
أجزم أن الإهمال والجهل يقيم في نفوس بعض العراقيين، وأجزم أن العتمة تقيم شعائرها مع سبق الإصرار والترصد والتسلح بالغباء.