ألمانيا .. تلك الدولة التي تجمع بين عبق الماضي وأحدث مظاهر التطور والانفتاح والتقدم الصناعي .. بين سحر الطبيعة والمعالم السياحية الخلابة والثقافية العريقة .. فهي سيمفونية معمارية وثقافية وحضارية تعزف على أوتار الماضي والحاضر والمستقبل وأنغام باخ وبيتهوفن وأشعار جوته وجونتر جراس وريشة ماكس ليبرمان .. وتعد مثالا للوحدة بعد أن انهار جدار برلين وقضت على عهد الانقسام ووحدت شقيها الشرقي والغربي.
كما أن ألمانيا تعتبر مركزا عالميا للسياحة العلاجية وتضم بين جنباتها أضخم مجمع إقليمي للمستشفيات والمصحات التي تتمتع بخبرة عريقة في مجال الصحة والبحث العلمي إلى جانب توفير الإقامة المريحة للمرضى والمرافقين من ذويهم .. لذلك يقصدها القاصي والداني طلبا للتداوي والشفاء.
وتتشرف ألمانيا منذ أكثر من شهر بزيارة سيد الرجال حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي يقضي إجازته السنوية في قصره العامر بالعافية والصحة هناك إلى جانب إجراء بعض الفحوصات الطبية التي بحمد الله وفضله طمأنتنا على صحة جلالته الغالية والعزيزة على كل مواطن عماني .. ورغم أن جلالته ـ أيده الله ـ في إجازة إلا أنه يحمل معه الوطن في قلبه وعقله، لذلك فإنه يتابع شئون البلاد ومسيرة التنمية من قصره ذي المهابة والفخامة في ألمانيا، وهذا خير دليل على حبه لوطنه وشعبه وحرصه الشديد على مصلحة البلاد والعباد.
إن مياه أنهار الراين والماين والدانوب وبحري الشمال والبلطيق وقمم جبال الألب الشاهقة والغابات والبحيرات واللوحات الطبيعية الخلابة جميعها سعيدة الحظ كونها تستشعر بأنفاس أغلى الناس وتنعم بوجود سيد عمان في محيطها.
إننا كعمانيين نتمنى زيارة ألمانيا ليس للتمتع بطبيعتها الخلابة ومشاهدة آثارها العريقة والتعرف على تاريخها العتيق وزيارة متاحفها التي تزيد على 630 متحفا رائعا، والعيش في أجوائها الحالمة الرومانسية أو للترفيه والاستجمام وركوب القطار المعلق في مدينة فوبرتال .. وإنما للاطمئنان على تاج رأسنا جميعا والشعور بالأمان بقربه في أي مكان كان .. فهو السند والظهر الذي يتكئ عليه الشعب العماني وهو القلب الحنون والعقل الحكيم الذي يعتمدون عليه في إدارة شئون حياتهم.
لا شك أن العمانيين يعيشون فوق صفيح ساخن ويتقلبون على جمر الشوق وينتظرون بفارغ الصبر عودة سيد عُمان وحكيمها .. ويتجهون بصلواتهم ليل نهار للمولى عز وجل أن يتم نعمته على القائد المظفر بالشفاء التام والصحة والعافية وأن يعود بين أبنائه ليظلهم بحكمته ويشملهم بعطفه.
* * *
انتصار زائف في الجرف الصامد

انتهت الحرب الضارية على قطاع غزة بعد واحد وخمسين يوما من الشقاء والدماء والخوف والحزن .. وخرج كلا الطرفين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسهم حماس ليهلل بانتصاره .. فمن وجهة نظر كل منهما أنه حقق إنجازا باهرا وعظيما على الآخر واستطاع أن يحقق أهدافه.
في رأيي أن المنتصر الوحيد في هذه الحرب الضروس هو الشعب الفلسطيني الصامد الذي دفع ثمنها من دمه وماله واستقراره فقد أثبت صبرا أسطوريا وصمودا يحتذى، ورغم القصف ورائحة الموت التي كانت تحيط به لم يركع لبني صهيون أو يستكين .. أما الطرفان السياسيان المتناحران فلم يحققا مآربهما من الحرب وجاء انتصارهما أجوف وزائفا.
فعلى الجانب الإسرائيلي لم تتمكن قوات الاحتلال من تحقيق أهدافها التي وضعها نصب عينيها في بداية الحرب وهي هدم الأنفاق ووقف إطلاق الصواريخ والقضاء على حركة حماس ونزع سلاحها .. إلا أنها لم تتمكن من القضاء على المقاومة الفلسطينية حتى ولو حرصت على استهداف قادتها وأعضائها البارزين، وستظل دائما تلك المقاومة شوكة في حلق دولة الاحتلال تؤلمها وتقض مضجعها .. فهي لم تتعلم الدرس من حربيها السابقتين في 2008 و2012 ولم تعلم بأن المقاومة لا تموت وستظل حية ما دام الاحتلال موجودا، وأن هناك وسائل سلمية قد تكون أكثر فعالية في تهدئة تلك المقاومة عن طريق منحها حقوقها المسلوبة .. أما الأنفاق التي كانت تبحث عنها لتهدمها فوق رؤوس من حفرها والتي يتسلل منها أهل القطاع المحبوسون فإنهم سيقومون بحفرها مرة أخرى طالما أن الحصار يخنقهم وكافة المعابر مغلقة .. فلو تم السماح لهم التنقل بحرية وفتحت لهم المعابر ما لجأوا لحفر الأنفاق .. وبالتالي فإن هذه الحرب المشؤومة كانت مجرد استعراض عسكري لبني صهيون أرادت الإدارة من خلاله أن تثبت لشعبها أنها قادرة على توفير الأمان لهم وحمايتهم ولكنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا، فهي لم تستطع نزع سلاح المقاومة بالإضافة إلى أن شعبية حماس زادت بعد الحرب ولم تضعف سلطتها حيث التف الشعب بأكمله حولها يساندها ويؤازرها ولم يلفظها كما كانت تحلم إسرائيل.
أما الجانب الفلسطيني فقد حدد مطالبه المشروعة في بداية الحرب لوقف إطلاق النار مثل رفع الحصار والسماح ببناء ميناء وإعادة فتح مطار غزة وغير ذلك من الشروط .. والآن قبلت حماس بوقف غير مشروط لإطلاق النار وهو ما يعني أنها لم تحقق أهدافها التي دخلت من أجلها الحرب.
لقد أثبتت عملية الجرف الصامد عجز المجتمع الدولي على ردع دولة الاحتلال وإلزامها بتنفيذ الاتفاقيات التي تبرمها .. فحتى اتفاقيات وقت إطلاق النار سرعان ما تنقضها وتتنصل منها تحت ذرائع واهية.
والآن وبعد أن استشهد أكثر من 2200 فلسطيني إلى جانب إصابة وتشريد الآلاف عدنا من جديد للمربع صفر إن لم يكن أسوأ .. فالفلسطينيون في قطاع غزة يمرون بمأساة إنسانية صعبة للغاية .. فهم يعانون من نقص حاد في الغذاء والدواء وسبل العيش الضرورية كالماء والكهرباء والوقود وغيرها، بالإضافة إلى أن البنية التحتية منهارة والمستشفيات والمدارس وكافة المرافق مهدمة والحصار لم يتم التخلص منه .. فإلى متى يظل المجتمع الدولي يقف موقف المتفرج من هذه المأساة؟
على الفلسطينيين لملمة جراحهم وتوحيد كلمتهم جميعا وإعادة إعمار ما تم هدمه .. فصمود الشعب وعدم قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها هو في حد ذاته مكسب لهم وشاهد على قوتهم وضعف دولة الاحتلال .. لذلك يجب عليهم التفكير بطريقة عملية لأن القوة العسكرية لن تحل المشكلة بل ستكبد الشعب الفلسطيني المزيد من الضحايا لذلك عليهم الاتجاه نحو المجتمع الدولي للضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي لكي ترفع الحصار .. واللجوء للقانون والمنظمات الدولية ورفع القضايا التي تعيد لهم حقوقهم المنهوبة .. فما فعله بنو صهيون يعد بكل المقاييس جرائم حرب يجب أن يحاكم عليها القادة الإسرائيليون.
لا يهم من انتصر بالحرب المهم أنها انتهت لتنهي معها مأساة الغزاويين الذين شاهدوا تطاير أشلاء أبنائهم وذويهم وسقوط منازلهم أمام أعينهم .. فقد أثبتوا أنهم قادرون على قهر دولة الاحتلال بالصمود ولكن ينقصهم الوحدة والتكاتف للتصدي للمخططات الخبيثة التي تهدف إلى إبادتهم وفنائهم والاستيلاء على كامل الأرض .. لذلك فإن عليهم اللعب مع إسرائيل بسلاحها وهو المراوغة وإجبارها على تحمل مسؤوليتها كدولة احتلال عن القطاع .. فهي مسؤولة عن توفير العيش الكريم لكل من يعيش على الأرض المحتلة.
إن الوضع في قطاع غزة بل في الأراضي الفلسطينية بأكملها أصبح حرجا وفي حاجة لحلول سريعة جدا .. ومسؤولية تصحيح الأخطاء الإسرائيلية ليست مسؤولية دولة الاحتلال وحدها بل العالم أجمع .. لذلك يجب على الدول العربية أن تقف بجوار الشعب المنكوب وإعادة إعمار ما فقده في هذه الحرب ومحاولة كسر الحصار بإمداده بالمساعدات التي تقيه شر الفقر والجوع والمرض وتعوضه بعض الخسائر التي فقدها.
نتمنى أن يأتي اليوم الذي نرى فيه قوات الاحتلال وهي تنسحب من الأراضي الفلسطينية صاغرة ذليلة وينعم فيه الشعب الفلسطيني بحرية وأرضه وممتلكاته ويسترد حقوقه كاملة غير منقوصة .. ولكن إلى أن يأتي هذا اليوم فليسعَ الفلسطينيون حثيثا لإجبار الطرف الإسرائيلي على الدخول في مفاوضات جدية لإعلان دولتهم المستقلة ذات السيادة ووفق حدود67 وعاصمتها القدس الشرقية .. فهذه الدولة لا ينتظرها الفلسطينيون وحدهم بل العرب جميعا.
رحم الله شهداء الحرب وألهم ذويهم الصبر والسلوان .. وشفى المصابين وأنعم على الشعب الفلسطيني بالأمن والأمان والاستقرار.

* * *
آخر كلام
إخوان السوء كالنار يحـرق بعـضـهم بعضا.

ناصر اليحمدي