[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
مفارقة أن تكون ذكرى عيد الاستقلال اللبناني يوم مولد سيدة الغناء فيروز .. العرب جميعا وأهل بلاد الشام خصوصا يعيشون مع صوتها كأنما حلم يدغدغ الأذن والوجدان ويرفع من منسوب حب الحياة .. تمكنت هذه المرأة المطربة من الدخول إلى صباحاتنا ومساءاتنا وأوقاتنا كلها، وجعلت من اليوم العربي معنى لكلمات لم يسبق أن قالها غناء .. فالرحابنة الذين كتبوا ولحنوا لها، والشعراء الكبار أيضا، عرفوا إلى أين ستصل كلماتهم عبر الصوت الملائكي.
ما من مطرب أو مغنٍّ عربي قدم لفلسطين من أغنيات وأناشيد مثلما قدمت فيروز .. منذ حمسينيات القرن الماضي قالت في أغنياتها "الفلسطينية" "سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى" .. كما غنت "سيدة المدائن" القدس، وأما أغنيتها الثانية عن المدينة المقدسة، فتروي أنها كانتت تتمشى في شوارع القدس فإذا بجماعة يهدونها مزهرية وقالوا لها إنها هدية من الناس المنتظرين للعودة إلى فلسطين.
أجمل وأعذب ما غنته كان للشام، ومن محاسن ما غنته أن كاتب الكلمات الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي تفوق في إخراج المعنى من قلب الشام ووضعها في شعر يقدمه على أساس هي الدنيا. فيقول مثلا عنها "هنا الترابات من طيب ومن طرب/ وهل في غير شام يطرب الحجر؟" كما يقول "قرأت مجدك في صدري وفي الكتب/ شآم ما المجد أنت المجد لم يغب" .. ثم يقول "شآم يا ابنة ماض حاضر أبدا/ كأنك السيف مجد القول يختصر" .. كثيرة هي أغنيات فيروز عن الشام، هذا العشق الفيروزي الرحباني له بعده السياسي منهم، ولا شك أنهم يعرفون التاريخ جيدا، وبأن الشام هي في صلبه، وإذا كانت الأرض تنعم بطراوة ومعنى فللشام أثر في ذلك.
سألت مرة الشاعر سعيد عقل عن سبب تغنيه بالعواصم والأوطان وليس بالقادة والزعماء وغيرهم، فأجابني أن الإنسان يتغير ولا رهان عليه، فيما المدن تعج بالتواريخ وكلها ظاهرة ومعروفة .. لذلك غنت فيروز له الكثير من القصائد عن لبنان "وطني يا جبل الغيم الأرق/ وطني يا قمر الندى والزنبق/ يا زغير (صغير) ووسع الدني يا وطني" .. ثم غنت لعمَّان العاصمة الأردنية، وغنت لبغداد "بغداد والشعراء والصور/ ذهب الزمان وضوعه العطر"، كما غنت للكويت وتونس ولمصر ولمكة المكرمة "غنيت مكة أهلها الصيدا/ والعيد يملأ أضلعي عيدا" ..
فيروز تاريخ من الغناء القومي والوطني، بل إن معظم مسرحياتها كانت مسيسة إلى أبعد الحدود وبعضه منع من العرض .. تفوق الرحابنة في كتابة الأغنيات لها، كما ضمنوا تلك المسرحيات مواقف فيها الكثير من الجرأة، وتمكنوا من إلباس المعاصرة لبوسا تاريخيا كي يتهربوا من الرقابة التي كانت تعرف أن الرحابنة نسيج من المجتمع اللبناني العربي المتأثر بما يجري في الواقع.
فيروز إذن ليست مجرد مطربة، بقدر ما هي علم فني لسياسة قائمة نالت فلسطين والشام منها منالة أساسية، بل لعلها المحطة الأخصب في تاريخها الغنائي .. وهذا كله له أسبابه، فالرحابنة وهي ينتمون إلى وطنية قائمة على التقدم والرقي وحرية التعبير وكل أشكال الحرية، ثم إنهم قوميون بالسليقة يجاهرون بها، وعروبيون بالانتماء، وعالميون بالمحبة للإنسان أينما كان. لكننا لا ننسى أيضا تلك الرومانسيات الغنائية الفيروزية التي ما زالت تلهب وجدان أجيال، كأنها تحفر فيها ما تشعر به وما تحسه وما تنبض من عاطفة إنسانية.