[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
عندما ودعت ابني الشاب المسافر للعمل خارج لبنان، كنت أعرف أني أخسر دورة حياة متجددة في حياتي، وأنه بالتالي لن يعود إلى بلده الذي رأى فيه استحالة عمل وحياة ونظام .. وبالفعل، كلما طالبته بالعودة بعدما مضى أكثر من عشر سنوات على إقامته في الخارج، بح صوتي بلا أي تأثير عليه.
أعرف أن له الحق في ما عرف عن بلده، لقد اكتشفه مبكرا بأنه غير صالح للبقاء فيه، مثله مثل كل الشباب اللبنانيين الذين لو قرأنا أفكارهم لوجدناهم جميعا يلحون بالسفر إلى أي مكان بعدما خرج لبنان من دائرة اهتماماتهم، وأصبح لديهم شعور بأنه قاتلهم إن هم بقوا فيه.
صحيح أن لبنان توقفت فيه الحرب الأهلية أو حرب الآخرين عليه، إلا أن الأصعب أن تأثيراتها ما زالت قائمة، وأكثر صعوبة ما نتج عنها من زيادة كبيرة في دور الحالة الطائفية والمذهبية، هذا إذا نسينا الفساد المستشري والمحسوبيات ويا ويل من ليس له داعم معروف سواء كان حزبا أو شخصا، وأكلة الجبنة وغيرهم من أهل الشبهات.
أعرف أن الحروب تتوقف في نهاية المطاف، لكنها تبقى أثرا لمدة طويلة، لأجيال وأجيال، لزمن طويل تحتاجه مسح الدموع ونسيان رائحة الدم والخلاص من الخراب الذي يكهرب العيون والدماغ. وهذا هو شأن سوريا يوم تنتهي المؤامرة عليها، ويوم يقال إن آخر رصاصة أطلقت وآخر قذيفة انفجرت، إلا أن صور الذاكرة لا تمحى من عقول أجيال وليس جيلا فقط .. وهذا هو شأن العراقيين كما أخبرني أستاذ في الجامعة العراقية وفي كلية إعلامها أن الشباب العراقي الحالي مختلف كليا عما مر في العراق من حيث ارتباطه الوطني لكنه متفلت في كل شيء ولا يريد أن ينصاع لأي شيء، جيل متمرد على ذاته فكيف بالآخر الذي سوف يحكمه؟
يوم سافرت إلى إسبانيا وكان قد مضى تقريبا على نهاية حربها الأهلية أكثر من ثلاثين سنة بقليل، تمنى علي أحد العرب العارفين أن لا أتحدث عن الحرب مع أي إسباني شاب أو كبير في السن..
في لبنان إذن لا يمكن لأي مذهب مثلا أن يتظاهر ضد أزمة ما وزيرها من هذا المذهب .. وإذا ما تظاهر آخرون من مذهب معين يعتبر ذلك حربا على ذلك المذهب فتقوم القيامة. بت أجهل لماذا يتعلم اللبنانيون ويدخلون الجامعات ويتخرجون وهم في أضيق تفكير لم يسبق أن عرفه لبنان قبلا؟ هنالك أسباب أوصلتهم إلى هذه النتيجة، وكلها مفتعلة من أجل أن لا يعود البلد إلى وحدته الداخلية، بل كي يظل مهددا بحرب داخلية تم شحن المجتمع بها لتنفجر ساعة الطلب.
فكيف أقول لابني عد إلى بلادك وأنا يسكنني الرحيل عنها دائما وبشكل يومي .. السفارات الغربية وخصوصا الأميركية والأسترالية والكندية وبعض الدول الاسكندنافية تعج بطالبي السفر إليها، هذا المشهد ليس موسميا إنه دائم وملحوظ، ويعني أن الجيل الشاب المتعلم صار له أن يوظف طاقاته فلن يجدها في بلده .. لبنان يخسر سنويا آلاف الشباب المبدع المفتون بالعمل في الخارج، طالما أن نسبة البطالة الداخلية تتجاوز أحيانا الأربعين بالمائة .. لكن ليس هذا فقط هو الدافع وإن كان أساسيا، بل الحالة المتأزمة التي تضرب بلدهم، وقديما قال لي أحد رجال الدين المستنيرين، إن لبنان له وضع خاص فهو ممنوع عليه أن يعيش وممنوع أن يموت، عليه أن يظل دائما بين البينين.