[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
انتكاس السياسات الفرنسية الاجتماعية والبيئية سينعكس سلبا على كافة دول العالم التي يعاني معظمها من أزمات اقتصادية, وضغوط دولية لتقليل العجز في ميزانياتها، عن طريق تقليل الدعم وتقليص المساعدات الاجتماعية وخفض المزايا التقاعدية، وفرض مزيد من الضرائب وهي سياسات سيئة السمعة تفتقد للشعبية.

احتلت فرنسا المرتبة الأولى أوروبيا خلال السنوات الماضية في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، حيث خصصت الحكومة 32% من ميزانيتها في 2016م بمبلغ يزيد على 750 مليار يورو لإعانات الشيخوخة ومعاشات التقاعد في بلد يزيد فيه عدد المسنين عن الفئات الأخرى، وعلى دعم الصحة والتعليم وإعانات البطالة، وهذا الرقم يفوق النسب التي تنفقها ألمانيا وبريطانيا والسويد التي لا يزيد إنفاقها الاجتماعي على 27% من ميزانياتها، رغم تحقيقها فائضا ماليا يفوق فرنسا الذي يحتل اقتصادها المركز الثالث أوروبيا بعد ألمانيا وبريطانيا والسادس عالميا.
عندما جاء ماكرون للحكم، وجد أن هناك عجزا في الميزانية يقترب من الـ3% التي حددها الاتحاد الأوروبي، وأن سببه المبالغة في المزايا والمخصصات الاجتماعية التي أقرتها الدولة في عهدي ساركوزي وهولاند، وقرر ماكرون سد العجز عن طريق فرض مزيد من الضرائب لتصبح فرنسا بطل أوروبا في فرض الضرائب التي تمثل 47% من إيرادات الموازنة العامة.

واستجابة لتوصيات اتفاقية المناخ التي أقرها مؤتمر باريس، تبنى ماكرون ضريبة المحروقات التي تصل حصيلتها إلى ملياري يورو سنويا, الغرض منها ـ كما يقول ماكرون ـ دفع الفرنسيين إلى تقليل استخدام سياراتهم الخاصة واللجوء إلى المواصلات العامة والنقل الجماعي واستعمال مترو الأنفاق والحافلات والقطارات الكهربائية لتقليل التلوث في شوارع باريس والمدن الفرنسية الكبرى، بينما رآها الفرنسيون ضريبة ظالمة لم تفرق بين صاحب سيارة ثمنها 10 آلاف يورو ومن يركب سيارة فارهة ثمنها مليون يورو، فالاثنان يملآن خزان وقودهما بنفس الثمن الذي يزيد ثلاثة أضعاف عن السعر العالمي للوقود.
تعهدت حكومة ماكرون بتوجيه جزء من حصيلة ضريبة الوقود لمساعدة الدول النامية في إفريقيا وأميركا اللاتينية لصالح جهود تقليل تلوث البيئة وخفض الانبعاثات ومقاومة الاحتباس الحراري والتي تعهدت بها فرنسا والدول الصناعية في اتفاقية التغير المناخي الموقعة في العام 2015م والتي انسحبت منها أميركا مؤخرا.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يخفِ سعادته بمظاهرات "السترات الصفراء" التي اعتبرها انتكاسة لجهود ماكرون في قضية التغير المناخي، التي يرى ترامب أنها خرافة لا وجود لها، وأكذوبة روج لها الصينيون ونشطاء البيئة لابتزاز أميركا وتعطيل الصناعات الأميركية، وأن المبالغ المخصصة لها ستضيع هباء في "كروش" المسؤولين الفاسدين في دول العالم الثالث المسؤولة عن تلويث البيئة وثقب الأوزون، وأن الصانع والمزارع الأميركي أولى بهذه المبالغ لزيادة الإنتاج وخلق وظائف يستفيد منها الأميركيون.
انتكاس السياسات الفرنسية الاجتماعية والبيئية سينعكس سلبا على كافة دول العالم التي يعاني معظمها من أزمات اقتصادية, وضغوط دولية لتقليل العجز في ميزانياتها، عن طريق تقليل الدعم وتقليص المساعدات الاجتماعية وخفض المزايا التقاعدية، وفرض مزيد من الضرائب وهي سياسات سيئة السمعة تفتقد للشعبية.
ليس هناك شخص على وجه الأرض؛ مهما بلغت درجة انتمائه ووطنيته يسعد بتخفيض دخله وتقليص رفاهيته، أو يصحو من النوم فيجد راتبه فقد نصف قيمته، نتيجة الغلاء والتضخم الناتج عن زيادة تكاليف المعيشة وثبات الدخل.
تراجع ماكرون عن ضريبة المحروقات يعني انتكاسة لجهود حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي على مستوى العالم، لأنه لن يمكنه الوفاء بالمبالغ التي سبق وتعهد بها لمكافحة التغير المناخي، واحتمال أن يحذو حذوه بقية الدول الموقعة على الاتفاقية والخاسر هو كوكب الأرض الذي يعاني بشدة من التغير المناخي، الذي اختفت بسببه جزر بأكملها في المحيط الهادئ، ويهدد المدن الساحلية ودلتا الأنهار بالغرق نتيجة ارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات وزيادة الأعاصير والعواصف المدمرة في مناطق كثيرة حول العالم.
وسمعنا مؤخرا عن اختراق مياه البحر المتوسط لسواحل مصر الشمالية وإغراق الأراضي الزراعية، وحدث نفس الشيء في الأردن والعراق والكويت وتونس وليبيا بعدما تعرضت لأمطار شديدة وفيضانات لم تعتدها المنطقة، مما يؤكد أن هناك تغيرا كبيرا طرأ على المناخ.
موقف الشعوب العربية من مظاهرات "السترات الصفراء" في فرنسا، جاء متباينا بين من أيد المظاهرات وتعاطف مع المتظاهرين ورأى فيها تعبيرا عن الرأي وحقا مشروعا للاعتراض على سياسات اقتصادية ظالمة ووسيلة ضغط ناجعة حققت أهدافها بعد تراجع الحكومة الفرنسية عن فرض الضريبة.
بينما رآها آخرون فوضى وغوغائية لا تليق ببلد متحضر مثل فرنسا، التي طالما كانت رمزا للحرية والليبرالية وواحة للديمقراطية والرفاهية واحترام حقوق الإنسان، وأنه لا مبرر لنزول المتظاهرين في بلد تعطي مواطنيها مزايا اقتصادية واجتماعية لا يوجد مثيل لها في أي دولة في العالم، واستنكروا أعمال الشغب والتخريب الذي طال معالم باريس عاصمة النور والجمال والفنون.
أطرف ما تابعناه في مظاهرات باريس؛ فيديو لمتظاهرة فرنسية ترتدي زيا عسكريا يعلوه سترة صفراء وهي تصرخ في شوارع باريس في ذروة الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين وانتشر الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي العربية، وعليه ترجمة بالإنجليزية، وتطوع أحد المتابعين العرب بوضع ترجمة عربية على الشريط ادعى فيها أن المتحدثة شرطية فرنسية قهرتها مشاهد التخريب التي أصابت بلادها، فراحت تخلع سترتها العسكرية وتصرخ في وجه المتظاهرين مستنكرة تصرفاتهم الهمجية، وتطلب منهم التوقف عن أعمال العنف والشغب حتى لا يكون مصير فرنسا كمصير الدول العربية التي أصابها الخراب بسبب الربيع العربي.
وانتشر الفيديو بهذا المعنى مساء السبت الماضي ونال تعاطف الملايين، وبعد قليل ظهرت الحقيقة واتضح أن هناك تزويرا للترجمة العربية، فالفتاة إحدى متظاهرات "السترات الصفراء" وكانت توجه هجومها لقوات الشرطة وتدعوهم للانضمام لصفوف المتظاهرين، من أجل مستقبل أبنائهم وتحسين ظروفهم المعيشية، وتلومهم على استعمال العنف والقوة ضد المتظاهرين السلميين.