فيلق فلسطيني آخر سقط ، يالشماتة الإسرائيليين، سميح القاسم يلحق يوم 19 أغسطس برفيقه على درب النضال محمود درويش الذي لفحتنا ذكرى رحيله السادسة يوم 9 من نفس الشهر، لكن الخبر يبدو منقوصا. هذا ما قلته لرئيس قسم الأخبار بصحيفة المسائية حين وضع أمامي خبرا في إحدى أمسيات غزة الدامية عن استشهاد 25 فلسطينيا جراء قصف الطائرات الإسرائيلية لأحد منازل القطاع ، قلت له: الخبر في حاجة إلى متابعة ؟ سألني مستفسرا : ردود الأفعال العربية والدولية ؟ رد المقاومة ؟ قلت : بل عدد المواليد الفلسطينيين اليوم !
بدت عبارتي مستعصية على مدارك زميلي ، كل زملائي في الجريدة ، كل من لا ينتمي للقطاع والضفة ، والمخيمات ، الفلسطينيون وحدهم يعرفون أن سقوط 25 شهيدا من أبنائهم يبدو خبرا مبتورا، والتكملة الجوهرية : كم عدد المواليد الفلسطينيين الذين انبثقوا من أرحام أمهاتهم ذاك اليوم الذي سقط فيه 20 فلسطينيا شهيدا ،خمسون ؟ ، مئة ؟ خمسمائة ؟ ذلك هو السلاح الذي يخيف الإسرائيليين وتجيد الأم الفلسطينية استخدامه ببراعة ، كلما قتلوا طفلا ألقت الأرحام في وجوههم بمئة طفل ، وكلما سقط شاعر انبثق من الأرحام ألف شاعر ! نخسر الحرب لو أصاب العقم الرحم الفلسطيني !
رحل سميح القاسم ، يعني أن فيلقا فلسطينيا يسقط ! لكن يقينا منذ لحظة رحيله يتكور في الرحم الفلسطيني شاعر لن يقل صلابة وعنادا في نضاله من أجل استرداد الأرض والتاريخ ، سيقول بل وأفضل مما قال سميح في قصيدته الشهيرة "خطاب في سوق البطالة " والتي شاعت بـ" ياعدو الشمس ": "ربما تسلبني آخر شبر من ترابي/ ربما تطعم للسجن شبابي/ ربما تسطو على ميراث جدي/ من أثاثٍ وأوانٍ وخوابِ/ ربما تحرق أشعاري وكتبي/ ربما تطعم لحمي للكلابِ/ ربما تبقى على قريتنا كابوس رعبٍ/ يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم/ وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم .
كان سميح القاسم الضلع الثالث في مثلث شعر المقاومة الفلسطينية خلال نصف القرن الأخير ، والضلعان الأخيران ، هما محمود درويش وتوفيق زياد الذي رحل في حادث سير مروع في يوليو عام 1994 بينما كان في طريقه لاستقبال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات العائد إلى أريحا عقب عقد اتفاقيات أوسلو ، ومثل درويش وزياد سافرت أشعار سميح إلى الوجدان العربي أينما وجد ، وقد شدا الفنان مارسيل خليفة برائعته "منتصب القامة أمشي"
منتصب القامة امشى
مرفوع الهامة امشى
فى كفى قصفة زيتون وعلى كتفى نعشى
وانا امشى وانا امشى وانا امشى
قلبى قمر احمر .. قلبى بستان
فيه التيل العوسج .. فيه الريحان
شفتاى سماء تمطر .. نار حين .. تمطر احيان
فى كفى قصفة زيتون وعلى كتفى نعشى
وانا امشى وانا امشى وانا امشى
منتصب القامة امشى
مرفوع الهامة امشى
فى كفى قصفة زيتون وعلى كتفى نعشى
وانا امشى وانا امشى وانا امشي

ولقد سبق هذا الثالوث، ثالوث آخر سيطر على الحياة الشعرية الفلسطينية خلال ربع القرن الثاني من القرن العشرين ، متمثلا في إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبدالكريم الكرمي "أبو سلمى" ، إنها أجيال تتعاقب من أشاوس القصيد ، كل جيل يتسلم اللواء من سابقيه، فلا تخمد أبدا جمرة النضال. ولقد خلد الشاعر الكبير نزار قباني العديد من الأسماء الفلسطينية التي ناضلت بالكلمة في قصيدته الشهيرة "شعراء الأرض المحتلة" التي كتبها عام 1968 ، كما خلدهم غسان كنفاني في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" الذي صدر قبل ذلك بعام ،
ولد سميح القاسم في قرية الرامة عام 1939، وكانَ والدُهُ ضابطاً برتبةِ رئيس "كابتن" في قوّة حدود شرق الأردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم،.و حينَ كانت العائلة في طريق العودة إلى فلسطين في القطار ، بينما الحرب في أتونها ، بكى الطفل سميح، فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية ، وبلغَ بهم الذعر إلى درجة التهديد بقتل الطفل فاضطر الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم ، وحينَ رُوِيَت القصة لسميح في شبابه قال: "حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي".
وهذا بالفعل كان حال سميح ، ظل يصرخ بأعلى صوته مقاوما من اغتصبوا أرضه ، ومثل درويش وزياد وأميل حبيبي وغيرهم من المبدعين الفلسطينيين ، اضطر إلى الانضمام إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي حينما أغلقت في وجهه كل سبل المواجهة ، ليسجن مرارا
ويوضع في أحيان أخرى رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي ويطرد مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه،.لكن لا شيء يفت في عضده !
إلا أن انهماكه في معركة استرداد الأرض والتاريخ من اللصوص الصهاينة لم يشغله أبدا عن معركة أخرى هي محاولة الارتقاء بالثقافة العربية التي كان يراها في وضع مزر حتى أنه قال مرة في حوار تليفزيوني حين سئل عن الثقافة في العالم الثالث : أرفض هذه التسمية ، لكن يبدو لي أن الكثيرين من المثقفين بين أقواس تبنوا مقولة العالم الثالث ويتصرفون بعقلية العالم الثالث، العالم الثالث هو سوق للأغذية الفاسدة وللأدوية التي انتهت صلاحيتها هذه مسألة معروفة للأسف الشديد أيضا في الثقافة تتحول ديار العرب إلى سوق لثقافة فاسدة وثقافة انتهت صلاحيتها بمعظمها هي ثقافة تقليد ، استنساخ لتجارب أجنبية ، استنساخ متخلف غير مثقف لذلك أنا أرى مقبرة نفايات ثقافية أكثر مما أرى حركة ثقافية !
هل يبالغ شاعرنا الفلسطيني الراحل في رؤيته تلك ؟ لا أظن ، بل هذا هو حالنا الثقافي ، نقادنا كثيرا ما ينشغلون بقضايا استيراد الخارج ، كف الجدل حولها منذ عقود .
رحم الله سميح القاسم، وضاعف من خصوبة الرحم الفلسطيني ليلقي في وجوه الصهاينة بألف سميح ودرويش وزياد !

محمد القصبي