تَمرُ الأيام وتَبقى الأَحاديثُ مُتْخَمَة بالتفاصيل وشيء منَ الوجعِ.. ماذا عسانا أنْ نفعلَ لنكفرَ ذنوبَ خنجرٍ زرعناهُ في خاصِرةِ الوطنِ لحظةَ ضعف ؟
اقتحمتهُ نظراتي وهو نائمٌ على سريرهِ الأبيضِ ، بدا غائماً هزيلاً والأنابيبُ تنتَشرُ في جسده .على يمينهِ جهازٌ يتحركُ على إيقاعِ صوتٍ يحملُ رائحةَ النهاياتِ ، يحتضنُ بينَ يديهِ ديوانَ (عصافيرٍ بلا أجنحة) ليسَ الكتابُ ما أدهشني إِنما سليمان نفسهُ حينما اكتشفتُ أَنهُ قامَ بوضعِ إشارةٍ على قصيدةِ (منْ منا لا يعشَقُ فيروز؟) ليكررَ قراءتها كُلما أَراد.
هوَ ينتقدُ منْ هم مولعونَ بقهوةِ الصباحِ فيروز فكيفَ يقرأُ الآنَ كتاباً لمحمود درويش يتغنى فيهِ بها في أحدِ قصائدهِ؟! هلْ كانَ يشتاقُ لشيءٍ ما ؟ ففيروز لا توقدُ فينا إلا الحنينَ والذاكرة.
لا أعلمُ كمْ منَ الوقتِ مضى علي وأنا أراقبُ القطراتِ التي تنزلُ من الكيسِ المغذي قطرةٌ تلو القطرة ، تزحفُ ببطءٍ نحو شريانِ ذراعهِ الذي بدا واضحاً للعيانِ وكأنما يريدُ أنْ يقفزَ للخارجِ غضباً منَ الكمِ الهائلِ للإبرِ التي تخترقهُ يومياً.
كانَ الانكسارُ باديآ على وجهي يبادلني الشعورَ ذاتهُ والدتهُ التي تقفُ على ناصيةِ السريرِ لا حولَ لها ولا قوة .
يثيرُ مخاوفي ما يشاعُ حولَ هذا المشفى بينَ أبناءِ قريتنا حيث يقولون إنَ منْ يرسلُ منْ مرضاهم إليهِ لا يعودُ ، هذهِ الشائعاتِ تقدحُ في نفسي بأشياءَ كثيرةٍ تشعرني بالقلقِ غيرِ المستساغ.
سليمان أخٌ في هيئةِ صديق ، لا أدري أيُ صُدْفَةٍ غريبةٍ تلكَ التي جمعتْ بيني وبينهُ؟! كانَ الأفضلَ في عيني ولا يزال .
هلْ تراهُ سيرحلُ ويتْرُكني أُعاني وحيداً معَ ذنوبي ؟
هلْ سَينسى وعدهُ لي بأنَنا سنتزوجُ أُختينِ ويجمعنا زفافٌ واحد ؟ وعبدالقادرِ عاملُ النظافةِ الآسيوي الذي ضاقَ ذرعاً من فوضويةِ حياتنا ماذا سأقولُ لهُ حينما سيسألني عنه ؟! لقد أحب سليمان أكثرَ مني لأن سليمان يحمل منَ الإنسانية مالا أحملهُ أنا.
تنقلني الذاكرةُ سريعاً لمحطاتٍ عديدةٍ ، تتشكلُ في متاهاتِ عقلي الكثيرُ من الصورِ (أيامُ الدراسة ، شقاوتنا في الجامعةِ ، ضحكاتُنا المجنونة ، رسوماتةِ الغريبة على جدرانِ شقتنا في الخوض...)
تواصلُ الذاكرةُ عبثها معي ولا تتوقف ، لا زلتُ أَذكرُ كلماتَ سليمان حينما اكتشفَ ما فعلتهُ قائلاً : (أنتَ لمْ تشعرْ بطعمِ الوطنِ إطلاقاً أيها الوضيعُ) لمْ أستطع حينها اتقاءَ كفهِ وهي تهوي على خدي بلا مقدمات.
أَخذتُ أتحسسُ خدي الأيمن وكأنما تعرضتُ للضرب تواً ، (تباً) همستُ لنفسي بامتعاضٍ وأنا أُفتشُ حولي لأتأكدَ منْ أنَ أحداً لا ينظرُ إلي وغادرتُ المشفى متوجهاً الى مطرح.
رميتُ نفسي على أحدِ المقاعدِ الرخامية المتناثرةِ على طولِ الرصيفِ استمعُ لصوتِ البحرِ الذي أنهكهُ مرورُ القُدامى منَ العابرين. أطلتُ المكوثَ، كانتْ الثامنة مساءً حينما نظرتُ لساعتي تمنيتُ لو أنَ الزمنَ يتوقف وليلُ مطرحِ المضيئة لا يتوقفُ عن الضجيج.
تعودتُ أنْ ترمقني الأيام بنظراتها المُريبة ، أستمعُ لأَحاديثِ الناسِ عني فأتدثرُ بالأرقِ كُلما داهمني إحساسُ العارِ متسائلاً (ماذا قد يغسلُ روحي المدنسةِ حدَ التعَفُن؟) , في تلكَ الدقائقِ اقتربَ مني أحدهم , كانَ رجلاً مسناً تفوحُ من جسدهِ رائحةَ العرقِ يحملُ أكياساً من السمكِ المجففِ تستوطنُ وجههُ ابتسامة جميلة رغمَ اختفاءِ معظمِ أسنانهِ ، جلسَ بجواري ، كنا نتأملُ حركةَ الشارعِ المقابلِ للرصيفِ البحري والصمتُ كانَ ثالثنا ، بدا لي أنَ المُسنَ أنهى عملهُ للتو وجاءَ يشتكي للبحر فهوَ الوحيدُ الذي يستطيعُ أنْ يسمعَ صمتنا لساعاتٍ طوالٍ دونَ أن يتذمر .
- ما آخرُ الاخبارِ ؟ قالها المسن بعد دقائق من الصمت دونِ أنْ يكلفَ نفسهُ عناءَ النظرَ الي.
- (لا جديد) ، أجبتهُ وأنا أنظرُ للأرضِ بينما أُحركُ إحدى قدمي التي كانت تتدلى منَ الكرسي للأسفل.
ملامحُ المسنِ جعلتني أشعرُ أني عارياً إلا من رقعةٍ بسيطة من الكذب تنتظرُ مني الاعترافَ بها , وكأنما كنتُ مرغماً على البوح فأجبتهُ (هل الغايةُ تبررُ الوسيلة دائماً يا عماه ؟)
أخذَ يرمِقُني بنظراتٍ مجهولةٍ كلما حاولتُ الخلاصَ منها أجدُ نفسي أمامها ثانيةً.
وهل حللَ الله السرقة لنا حينما نكونُ جياعاً ؟ لا يأخذُ بهذهِ المقولةِ إلا أولئكَ الحُثالة ممن لا يجيدونَ الاحتفاظَ بمبادئهم طويلاً. قالها المسنُ وتركني مذهولاُ وغادرَ المكان يقاومُ انحناءةَ ظهرهِ دونَ أنْ يضيفَ كلمةً أُخرى.
أخذتُ أنظرُ نحوَ السماءِ الحالكةِ أُحاولُ امتصاصَ الألمَ الذي يجتاحُ زوايا عديدةٍ من نفسي المتآكلة.لا زلتُ أذكرُ حينما قذفوا بي الى مستنقعٍ مظلمٍ ، تَصَنعتُ نظراتٍ متحديةٍ لهم لكنهم رغمَ ذلكَ اكتشفوا كمْ هي جبانة.
كانو أسوأ منْ رأتهم عيناي ، لا ظلَ لهم ولا حتى وجوه ، يلبسونَ أقنعةَ الصلاحِ بالنهارِ وبالليلِ تذوبُ وجوههم لتظهرَ أخرى . لازالت ذاكرتي رطبةٌ بكلماتهم وهم يعدونني بعلاجِ والدي وبلملمةِ كرامتي التي تناثرت في أرجاءِ مدرستي القديمة عندما كنتُ طفلاً لا يحلمُ إلا بحقيبةٍ جديدةٍ ولباسٍ لا تتجرأُ أشعة الشمسِ على التسكعِ بين خيوطه .فكرتُ بما قاله لي أُولئكَ البشر قررتُ أنْ أُجربْ فأنا لم أعرف في هذهِ الحياة سوى الخيباتِ المتتالية.
قطفوا عروقَ مبادئي في وهجِ ظهيرةٍ لا أعلمُ تاريخها .مقابلَ ريالاتٍ كثيرةٍ بعتُهم الضميرَ والأرضَ وكانَ لهم ما أرادوه.لكن حتى تلكَ الريالاتِ الملوثةِ لم تستطعْ أنْ تفعلَ شيئاً لي وأنا ارى أبي يسابِقُها وقد شخصت عيناهُ عالياً منْ ذهولِ الموت.
تعودتُ على جُرمي وما عادَ ضميري يؤلمني ربما وخزاتٍ بسيطةٍ هي منْ تحاولُ أنْ توقدَ الإحساسَ بداخلي ، مع الأيام رحلتْ هي الأُخرى معَ ما رحلَ من مبادئي وإنسانيتي .
غادرتني الذاكرةُ الجريحةِ على صوتِ الأذانِ يصدحُ لصلاةِ الفجرِ منْ أحدِ مآذنِ مطرحِ القديمة .تركتُ المكانَ وتوجهتُ للمسجدِ وبداخلي سؤالٌ يتصارعُ مع رغبتي بالصلاة هل تراهُ الله يقبلني وأنا على حالتي هذهِ ؟
أنهيتُ صلاتي وقررتُ المكوثَ بالمسجدِ لحينِ موعدِ الزيارةِ بالمشفى ، أصلحَ الإمامُ هيئتهُ والتفَ حولهُ الكثيرُ منَ المصلين في منظرٍ يشبهُ حلقةَ الذكرِ ولأولِ مرةٍ قررتُ أنْ أَنضمَ اليهم كانَ يتحدث عنْ حبِ الوطنِ والإخلاصِ لهُ وحينما وصل لعبارة نبينا الكريم (لعنَ اللهُ الراشيَ والمرتشي) شعرتُ بسهامِ نظراتِ المصلينِ لا تخطئني أو ربما ظننتُ هكذا ، أتراهُ الإمامُ كانَ يقصدني ؟ هل كانَ يعلمْ ؟ متعفنٌ هذا الجسد فبرغمِ ما يسترهُ من ثيابٍ باهظةِ الثمنِ إلا أنَ رائحةَ الخطيئةِ تفوحُ منهِ ، تنفستُ الصعداء وهرولتُ خارجاً.
ذهبتُ لزيارةِ صديقي ، كانَ المكانُ فارغاً إلا منْ أمٌ ثكلى تبكي ابنها الوحيد وسريرٌ يفوحُ منهُ عطرٌ لا يخطِئُهُ أَنفي.
تركني أَعزُ أصدقائي بعدَ صراعٍ طويلٍ معَ الخبيثِ .أظنهُ علمَ بأَني منْ سيرسلهُ للعلاجِ فرحلَ سريعاً كما فعلَ أبي من قبل ؟!هل كانا يخافانِ أنْ تطالَهُما لعنة أموالي التي جمعتُها مستغلاً وظيفتي لحسابِ منْ يدفعُ أكثر ؟
(محمد أَلنْ تحضرَ الدفنَ معنا ؟ ) يصرخُ أَحدهمْ من نهايةِ الرواقِ ...أفيقُ من أفكاري ، أتحركُ مقاوماً ثقلَ جسدي ، أخذتُ نفساً عميقاً وذهبتُ معهم ونظراتٌ باردةٌ تعلو ملامحي .رأيتُ انعكاس صورتي في زجاج إحدِى النوافذِ ، لا وجه لي ولا حتى ظلٍ ينمو معَ انعكاسِ الضوءِ الهاربِ منَ الليلِ .كانَ شخصاً آخرَ يعلوه الاإِنكسارُ ... لمْ يكنْ أَنا !! .

عائشة بنت محمد النقبية