أكَّد الفلاسفة وعلماء الاجتماع من قديم أنّ الإنسان مخلوق اجتماعي ، فقرّر أفلاطون أنّه في ضعفه لا يستطيع أن يعيش وحده ، بل لا بدَّ له ممن يتعاون معه ، وقال أرسطو: إنّ الإنسان مَدَنِيٌّ بطبعه ، فهو لا يستغني عن المؤانسة والمعاشرة ، وصفة المؤانسة هذه هي أساس المجتمعات البشرية. وإذا ما تتبَّعنا أصل اشتقاق الإنسان في لغتنا وجدنا مصداق هذه الفلسفة ، وأدركنا أنّ العرب قد استشرفوا بحسِّهم الصادق هذه الصورة الاجتماعية له ؛ لأنه عندهم مشتقّ من الأُنس الذي يعني في أصل دلالته : الظهور والبَيَان، وهو نقيض الجن والتوحّش. تقول في اللغة: أَنِسْتُ الشيءَ ، إذا رأيته ،قال تعالى:(وَآنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً) أي أَبَصَرَ ورَأَى ، ودلالة الأُلفة فيه قول العرب: آنَسُ من حُمَّى ، يريدون أنها لا تكاد تفارق العَليل ، فكأنها آنِسَةٌ به. ويقال: أَنِسْتُ بِهِ إنْساً إذا أَلِفْتُهُ واطْمَأْنَنْتَ إليه ، وتتجلّى الحاجة النفسية إلى الأُنْس عند العربي بكل حرارتها الاجتماعية في قول الأحيمر السعدي:
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى
وصَـوَّتَ إِنسـانٌ فَكِـدْتُ أَطِيــرُ
ومنه الأُنْس ، وهو حديث النساء ومؤانستهن ، ومن هذا الأصل اشتقوا اسم الآنِسَة ، وهي الطيِّبة النَّفْس ، التي تُحِبُّ قُرْبَك وحديثَك ، وجمعها آنِسَات وأَوَانِس. وجمع الإنسان: الناس وأُناس وأَنَاسِي (بتخفيف الياء وتشديدها) ، والمفرد منه الإنسان للمذكر والمؤنث جميعاً ، وقولهم هذه الأيام (إنسانة) توليد لم تعرفه العرب قديماً. وقال بعضهم أنّ اشتقاق الإنسان من النِّسيان ، ويقوم ذلك الاعتقاد على علل صرفية صناعية يجادل بها النحاة ، لكنه عند الجمهور من الإنْس.
وتشتق العربية من هذا الأصل معاني تتسع بها في مجال العقل والإدراك ، فيقول العرب: آنَسَ الشيء : عَلِمَهُ ، وكذلك أنس منه رشداً ، وفي مجال السمع يقولون: آنست الصوت : أي سمعته.
ومن كلام العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحداً ، فيكون معناه : انظر من ترى في الدار ، وقال الشاعر:
بِـلادٌ بِـها كُنَّـا وكُنَّـا نُحـِبُّـها
إِذِ النَّـاسُ نَـاسٌ والبِـلادُ بِـلادُ
وما قوله : الناس ناس إلا على المعنى في الكلمة الثانية ، لا على اللفظ ، أي إذا الناس أحرار والبلاد مخصبة ، ولولا ذلك لكان تكرار اللفظ خالياً من زيادة الفائدة على الجزء الأول. ومن غريب الاتفاق أن الإنسان في اللاتينية واليونانية يرجع في أصل اشتقاقه إلى الأرض. وأن الإنسان في العربية يسمى أيضا بشراً ، وهو من البَشَرَة معنى ظاهر الجِلْد، أو ظاهر الأرض ، ولكن يلحظ أن القرآن الكريم في استعماله يقصر لفظ البشر على الجانب المادي والحسي الجسمي ، كقوله تعالى: (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيّاً) ، على حين يعبّر لفظ الإنسان عن الجانب الروحي كقوله تعالى: (عَلَّمَ الإنسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). ومن هذا الأصل اشتق المحدثون بطريقة المصدر الصناعي لفظة (الإنسانية) التي لا تعني البشرية فحسب ، وإنما تعني مجموعة المُثُل والقيم والمظاهر السلوكية التي تحكم تصرفات بني البشر بعضهم مع بعض ، بيئات وجماعات وأفرادا. أما نقيض الإنس ، أي الجن فمشتق من الاجتنان ، أي الاستتار والاختفاء ، وجُنّ فلان : اختفى عقله ، وعلى هذا يفسر معنى جُنّ الليل ، والجنينة والجنين وأمثالها.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]