سميح القاسم فكرة، والفكرةُ لا تموت بالتّقادُم وإنِّما تزدادُ يقينًا، هذا الاعتقاد ليسَ لمجرَّد استعراض تشخيصِ محبتي لسميح القاسم وإنَّما هي الحقيقة التي كَبُرتُ عليها منذُ أن تهجيتُ حروفَ النَّسخِ والكتابَ في مدرسةٍ بابُها يفتحُ على مرجِ ابنِ عامرْ، ويقود اخضرارُه اتِّسَاعَ الجليلِ البعيدِ الوسيعْ، ويشيرُ هنا الرّامة، هنا مُنشدُ الحكايةِ الفلسطينية، يقال إن سميح ينامُ ويصحو ويمشي ويحاكي النّاس ويشربُ قهوتَهم ويشربون قصيدتَه ومعانيه، وعبَرْنا سنينَ النّصِّ والتّاريخ، وسمعتُ صوتًا ذاتَ نهارْ، هذا الصَّوتُ ليسَ غريبًا طالما حفِظَتهُ مسامعُ النَّاس وأنا، صدّاحٌ طويلُ النَّفسِ يكوّن غيمةً تحملُ في نسيجها ما يُطفئ عطَشَنا إن أتعَبنا المشوارْ، كانَ يعبُر بي بصوتِه وأنا كليمي القاسم. أسمعهُ يكلّمني، لحظتها رأيتُ البلادَ كلّها في صوتِه، رأيتُ النَاسَ والعُمّالَ والفلاّحين والبُسطاءْ، رأيتُ الباقين والمُهاجرين والأنصار، رأيتُ ما رأيتُ غيرَ وجهِهِ الّذي أحببتُ صورَتَه وشَعره وشِعرَه العفَويّ وقامَتهُ الشَّابةِ الّتي كلّما تعفّرّتْ بتعبِ السنواتِ ازدادَت رشاقةً وضحكاتٍ تراقصُ جسدَه فينتَشي القلبُ بابتسامتِهِ البيضاء تُسًّرّ النَّاظرين فيسبَحونَ في بحرِ الكلامِ كلامه. رأيتُ عينيهِ ترسمانِ حياةً للحياةْ، رأيتُه على قمَّة زيتونةٍ في الرَّامة، هاتفتُه ذاتَ موسمِ زيتونِ، قُلتُ له، الأشقاءُ في (عُمان) يريدونَكَ وصوتَكَ والقصيدةَ هناكْ، قال لي: أنا في أعالي الأرضِ أقطف حُبًّا وحَبَّا أضيءُ بهِ سِراجَ الأرضِ والبلادْ، قلْ لَهمْ إنّي أراهُم من هنا، من رأسِ الجليلْ ، من أعالي الزيتونِ والماءِ والخَضراءْ ..!!. ثانيةً، يا أيُّها القاسِم، وثالثةً وغيرها، كلُّ صوتٍ أكون بعدها بِخير، والتقيكَ وأصافِحكَ وأعانقُ فيكَ كلَّ صوتٍ حرّْ، تحفظني وأحفظُ تضاريسَ فِكرِكَ ومعانيكْ، وتمنحُني مسحةَ حُبٍّ على كَتفي وتبتَسِمُ لي، فقطفت ابتسامةً من حقلِ بياضِك وحفظتُها، وتعلَّمتُ درسيَ الأولْ، أنَّ الشّاعرَ نبضُ الشّارعِ والنَّاسِ البُسطاء، قلت لي: إهدم كل سورٍ يمنعكَ عنهم، واهبط كلَّما ظنَنْتَ أنَّ تلكَ الشرفةُ ستُريكَ إيَّاهُم من عُلُوٍّ وانظُر في عيونِهم صورتَكَ وفي قلوبِهم نبضَكْ، وعلى شفاهِهِم وألسنتِهِم اسمَك وما كتبتَ لهُم وما قصَصْتَ للكونِ عنهُم، هم صوتُك يا بُنَيّ، وهم حقلُكَ الّذي لا يعقرك ويمنحُك حنطةَ الحياة، احفظهم يحفظوكْ، وارحم جوعَهم وغضَبَهم من أربابِ الحياة، يمنحوك رغيفَ خبزٍ لن تجوع بعدَه أبدا، ويطفئونَ عطشَكَ الّذي لا ظمأ بعدَه. وتركتَنا وحدَنا وقصيدتَك، ورسمتَ لنا ثورةً لنَّقعِْ الغُبارِ الّذي يَرمي حِمَمًا من نَّارٍ ونُورْ، دونَ أن تُغطّي سُحبَ مقولتِهم كلُّ الدُّنيا، وتصيرُ لا مطرًا عفيًّا يجيءُ من قصيِّ البِلادْ، الكبارُ الكبارْ، لا يذهبونَ إلى حقولِ النَّرجسِ وحدَهمْ؛ وإنَّما تشيّعُهم قصائدُهم والأغنياتُ الّتي بلَّلَتْ حناجرَ المُنشدين، والكلماتُ العاليةُ البليغةُ السّاميةْ، كسمُوِّهم في أعالي الدِّيارِ . أشجارًا تظلّل المُتعَبين، هذا هو القاسم الّذي كبُرنا بعمرِهِ وعِشنا في ظلِّ قصيدتِه وابتسامتِهِ وأحاديثَ الرُّعاةِ في الحقولِ المنسيَّة، وشربنا من بئرِهِ روحَ البلاد، وارتفعنا كمَا أحبَّ على قمَمِ الكَرمِل العَالي، ليسَ شِعرًا نقولُ أو نكتبُ في حضرةِ الشِّعْر؛ وإنَّما الحقيقةُ التي لا يختلفُ عليها طفلانِ ولا اثنانِ لا ثالثَ لهُما؛ أنَّ القاسم حَفَرَ للتّاريخِ جذرًا مُختلفًا، لم يغادر البلاد، لمْ يحمل حقيبته ، ولا أغلقَ باب الدّار خلفَه، ولم يسكنْ أعالي الشُّرفاتْ، فكَتَبَ بمحبّة، بروحِ المُخلِص والمُخلّصِ للأرض اليَبابِ وللوطنِ العفيِّ الحكايةْ، هو ثالثُ الثالوثِ المقدّس في شعر المقاومة زَيّاد المُعلّم، ودرويشُ النّاس، وأنت ثالثهما، فكان نَصّ بيان الأرضِ والوَطن؛ اسمه "سميح القاسم " ..!!. لم يرحلِ القاسمُ عن (رامَتِهِ) ولا عن (جليلِه) فكانَ الشاهدُ والشَّهيدْ ، وكان سنديانَ الجَليل وسادنَ الأرضْ، وبقيَ في كلِّ فلسطين قصيدةً واسمًا ورمزًا وعلمًا، شاهقًا، عرِفَه الكونُ أُمّة من أٌمّةٍ أُخرِجتْ من دِيارِها وبقيَ هو فيها بكلِّ حالِها وحارَاتِها، فلسطينيًّا خالصًا، نقيًّا، كنَدَى مرجُ بني عامر، شهيًا كرَغبةِ الُّلجوءِ في العَودةِ إلى بيَّاراتِ البرتقالْ .. إلى حيفا ويافا وعكّا وشهدِ الخليلِ والجليلِ والدَّم خمرُ العارِ يا صاحبَ الدَّاخلِ الذي لم يَعرف الخُروج ولا الخوارجَ منهم أحدا...!!

عبد السلام عطاري
كاتب وشاعر فلسطيني