يُعد الموقع الجغرافي بمثابة رأس المال الحقيقي لعدد من الدول التي استثمرت موقعها بجدارة فائقة، وعُمان واحدة من الدول التي يصعب فهم تاريخها خارج إطار جغرافيتها، وذلك لان إمكانيات الموقع لا تحقق نفسها بنفسها بل من خلال الإنسان، ولأن هذه الإمكانيات لا تظهر كاملة كطفرة واحدة وإنما تنمو وتبرز وتتطور في عملية حركية حيث تتفاعل العناصر الجغرافية والتاريخية بحركة منتظمة أحيانا وعشوائية في أحيان أخرى، وهكذا اكتسب موقع عُمان أهمية كبيرة عبر القرون، ومن خلال مراحل محددة ومتميزة في كل مرحلة منها تكتشف فيها طاقات جديدة تضاف محصلتها في النهاية لرصيدها الضخم من التراث الحضاري.
وبناءً على ما تقدم فإن عُمان واليمن تشكلان امتداداً جغرافياً واحداً في جنوب شبه الجزيرة العربية، كما تتوافر فيهما الموارد الطبيعية والطاقات منذ أقدم الأزمنة، بداية من موقعهما في الواجهة البحرية لجنوب شبه الجزيرة العربية، وانتهاءً بالتركيبة السكانية الواحدة، كما تتحكم عُمان في مدخل الخليج العربي الذي يعتبر ممراً لناقلات النفط العملاقة في العصر الحديث، وطريقاً للقوافل التجارية قديماً، أما اليمن فتشرف على مدخل باب المندب المؤدي إلى البحر الأحمر، وهذا الموقع المهم لليمن وعُمان أهلهما للقيام بدور ريادي ورئيسي في مسار الحضارات الإنسانية منذ غابر الأزمنة وتعود العلاقات بينهما إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
لقد شهد كلٌ من عُمان واليمن ظروفاً وأحداثاً مهمةَ في القرن العشرين ومن ضمنها قضية الحدود السياسية التي تُعد من الأهمية بمكان؛ نظراً لطبيعتها، وتأثرها بالطابع السياسي والتاريخي والقبلي، فعلى مر التاريخ كانت الحدود مفتوحة بينهما، وقد كان لبريطانيا دورٌ هامٌ في عمليةِ رسم الحدود بين عُمان واليمن عبر الصحراء في جنوب شبه الجزيرة العربية، مما يعرف في الدراسات التاريخية والسياسية بالخط الأزرق والخط البنفسجي وهما الخطان اللذان تمسكت بهما بريطانيا في تحديد وترسيم الحدود بين مجموعة من الدول في شبه الجزيرة العربية.
تتكون السيادة السياسية في الجزيرة العربية من الأرض والعقيدة والقوى الخارجية المؤثرة، وهنا يكون للموقع الجغرافي تأثيره الفعال في السيادة السياسية على شبة الجزيرة العربية. لذا يمكن القول بأن الحدود قد ارتبطت بفكرة الملكية، فالتجمعات الإنسانية البدائية كالقبائل وما في حكمها كانت تشعر بأن حقوقها وسلطانها له مجال أرضي ينبغي ألا تتعداه. فالرعاة – على سبيل المثال- كانوا يمارسون نشاطهم في منطقة تخضع لسلطة قبيلتهم، وكان تعدي قبيلة على المنطقة الخاصة بأخرى يشكل خرقاً وتجاوزاً يستدعي الخلاف والخصام، وقد يؤدي إلى نشوب القتال. ومن الأمور التاريخية المؤكدة أن فكرة الحدود الثابتة لم تتبلور إلا بعد معرفة الزراعة وما صاحبها من صناعة وتجارة محلية واستقرار. وقد كانت الحدود الثابتة تتمثل عادة في أراض شاسعة؛ وبالأخص الأراضي التي تشغلها الصحاري والمستنقعات والغابات الكثيفة والأراضي. وعلى سبيل المثال؛ ما تركه الهنود الحمر في شرقي أميركا الشمالية، والأراضي الخالية في قرى وسط وغرب أوروبا، كذلك ما لجأت إليه بعض المجتمعات من إنشاء أسوار وخنادق وإقامة الحصون والقلاع؛ كسور الصين العظيم الذي أقامته إمبراطورية الصين، والحصون التي بنتها الإمبراطورية الرومانية؛ وطالما بنى العُمانيون الكثير من الحصون والقلاع، وتطور الأمر بعد ذلك في وسائل إنتاج الغذاء أو الصيد وتربية الحيوان مما أدى إلى انكماش الحدود واقتراب المجتمعات المستقرة مع بعضها البعض إلى حد التلامس.

دور بريطانيا في رسم الحدود بين عُمان واليمن.
لم تعرف الجزيرة العربية الحدود السياسية قبل مجيء الاستعمار البريطاني وكانت الحدود مرتبطة بالنطاق الإقليمي لوحدة سياسية قائمة مثل الإمامة اليعربية في عُمان والإمامة الزيدية في اليمن والسلطة الكثيرية في حضرموت وبالرغم من وجودها كوحدات سياسية مستقلة؛ إلا أن حدودها السياسية لم تكن معروفة بالتفصيل، وهذا يرجع ربما إلى الانتماءات القبلية والاجتماعية في شبه الجزيرة العربية حسب ولاء القبائل.
إذن كيف تم رسم الحدود السياسية في شبه الجزيرة العربية؟
لقد كان لموقع الجزيرة العربية الاستراتجي والتجاري أثرٌ كبيرٌ في جعلها دوماً ساحة للصراع الاقتصادي والجغرافي، وحتى العسكري بين القوى المتنافسة على مستوى العالم، وبالأخص عندما لم تكن هناك طرق سوى البحار. وعندما راحت الدول الاستعمارية تبحث عن الثروات- وبالتالي نهبها- في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين؛ اتجهت إلى الهند، وكانت بريطانيا سبّاقة في ذلك عندما نظمت طرقا للملاحة والتجارة، وتأميناً لسفنها وقوافلها في البحار الجنوبية فإنها؛ قد احتفظت لنفسها بحق التصرف في شؤون مصالح بريطانيا العليا في شؤون شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، ولم تلتفت عند ترسيمها إلى الحدود للجوانب البشرية والاقتصادية؛ لذا خرجت هذه الحدود كقنابل موقوتة ربما لا تحتاج لوقت وجهد لتنفجر، وما من شك أن المشاكل التي يعانيها الشرق الأوسط في مجمله هي عبارة عن تركة ورثها من مخططات الدول الاستعمارية، فتعتبر حدود إمارات ساحل عُمان حدودًا إدارية تابعة لبريطانيا، وبذلك تمتعت بريطانيا بحرية التصرف في ترسيم تلك الحدود.
لقد ترسّخت الأقدام البريطانية في اليمن فيما عُرف باسم "الكانتونات التسع" في عدن، ونالت احترام واعتراف الدولة العثمانية بموجب اتفاقية 1914م، أما في عُمان فتعود العلاقة البريطانية الوطيدة إلى أول معاهدة مكتوبة وموقعة مع سلطان عُمان السيد سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي، عام 1798م، ولعل اهتمام بريطانيا بالمنطقة وسواحلها ناجم عن الرغبة الاستعمارية في قطع الطريق على الغريم الاستعماري الآخر "فرنسا" من الوصول إلى الخليج العربي، وبالتالي الوصول إلى درة التاج البريطاني، ولما ظهر النفط وتدفقت موارده المتزايدة في الخليج زادت حاجة بريطانيا في السيطرة على المنطقة، وبذلك يكون النفط هو القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي، وخاصة بعد اكتشافه وثبوت أهميته العالمية كوقود في الولايات المتحدة وغيرها، إضافة إلى التجارة والسيطرة على البحار من جانب بريطانيا، وبالتالي دخلت شبه الجزيرة العربية مرحلة أخرى من الصراع الجديد.
كان أشهر من لعب دوراً فاعلاً في عملية تقسيم الحدود هو البريطاني بيرسي كوكس ( (Bercy Cox مفوض حكومة الهند البريطانية في الخليج العربي، وهو صاحب الاختراعات الاستعمارية الشهيرة من مناطق التهادن إلى المناطق المحايدة انطلاقاً مما يعرف في الدراسات التاريخية والسياسية بالخط الأزرق والخط البنفسجي وهما الخطان اللذان تمسكت بريطانيا بهما في تحديد وتعيين الحدود بين مجموعة الدول في شبه الجزيرة العربية.
ويمكن تعريفهما كالتالي:

الخط الأزرق:
هو الخط الذي يحد إقليم عُمان مع الخليج، ونصت عليه الاتفاقية الأنجلو-عثمانية في عام 1913م، وهي اتفاقية أحرز فيها الطرفان تقدمًا نحو التوقيع عليها بعد مفاوضات شاقة وطويلة بين الطرفين، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، واستمرار أحداثها المدمرة على مسرح العالم حال دون التصديق النهائي على هذه الاتفاقية.

الخط البنفسجي:
هو بمثابة فاصل جاء في نصوص اتفاقية 1914م الأنجلو-عثمانية وهي الاتفاقية التي تم التصديق عليها وتعد بمثابة اتفاقية فرعية، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا لم يتم التصديق على اتفاقية 1913م، في حين أنه تم التصديق على اتفاقية 1914م. والجواب على ذلك أن اتفاقية 1913م لم تكن اتفاقيةً بين الطرفين الأنجلو- عثماني فقط؛ بل كانت جزءاً من مفاوضات شاملة ضمت العديد من القوى الأوروبية في ذلك الوقت مع الدولة العثمانية وممتلكاتها وهي على وشك السقوط، أما اتفاقية 1914م فكانت مجرد ترتيبات تزامنت مع المفاوضات الجارية في سبيل التوصل إلى اتفاقية 1913م، وكانت بمثابة إضفاء الطابع الرسمي على وضع قائم فعلاً واعتراف الدولة العثمانية بالسيادة البريطانية في عدن، وهو الوضع الذي نشأ عن إخفاق المحاولات التركية في احتلال صنعاء عام 1916م؛ أو بمعنى آخر فشل حملة مدحت باشا على صنعاء.
ومن الملاحظ أن بريطانيا قد ربطت منطقة شبه الجزيرة العربية بمعاهدات واتفاقيات سرية مع حكام المنطقة؛ لتدعيم سيطرتها على دول المنطقة وبالتالي تغلق الطريق أمام القوى الاستعمارية الكبرى من الاقتراب من هذه المنطقة باعتبارها منطقة ذات سيادة بريطانية، فعقدت معاهدة مع البحرين عام 1891م، وساحل إمارات عمان عام 1892م، ومع الكويت عام 1899م وأخيراً مع قطر عام 1966م.

يونس بن جميل النعماني
[email protected]