[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
لقد عانى الوطن وتضرر المواطن من ثقافة الخطابين والوجهين, من التصفيق الماكر والابتهاج الظاهري والثناء المفرط والإطراء المصطنع أمام الكاميرا, من العنتريات وكلمات التشكيك والذم والشتم من وراء الكواليس ومن خلف الأبواب المغلقة, وهي أساليب تعافها النفس الأبية في حين أن فئة عابثة أتقنتها وتفننت في أدائها, بل وتعمل على الدفاع عنها وتسويقها بزعم أن المصلحة الخاصة تقتضيها والظروف المحيطة تتطلبها, وهو فكر مادي خالص يخدم الفرد على حساب الجماعة.

الوطن في قلب الحدث، والحدث تشع حرارته من المداد الذي يسيل من يراعة الكاتب, محولة به بياض صفحات ناصعة إلى سواد خالص, وعندما يأخذ القلم الجزء الأكبر من جهد وفكر ووقت صاحبه للحديث عن قضايا وهموم الوطن العربي الكبير فلا يعني ذلك بحال من الأحوال أن الكاتب ابتعد عن وطنه الخاص إلى الوطن العام, وعندما ينصرف القلم عن الشأن الخاص فلا يعني ذلك بأن الوطن خالٍ من الهموم معافى من الأسقام بعيد عن المشاكل, لأنها إفرازات طبيعية يستحيل أن يخلو منها قطر أو مجتمع في عالمنا الفسيح, والعوائق والإشكاليات والتراكمات التي تواجه القلم وهو يعبر عن هموم وقضايا وطنه وينشد الخير ويدعو إلى الحوار الهادف والنقد المفيد الهادئ والاعتياد على حسن الإصغاء إلى الصوت الآخر, عديدة وكثيرة.
للوطن همومه وقضاياه وللمواطن طموحاته وآماله وآحلامه المشروعة وللكاتب وقلمه مساحة محدودة للنقد وحدود وخطوط لا ينبغي تجاوزها أو الخروج عنها وإلا فهو الوقوع في المحذور, الفهم الخاطئ ـ الاصطياد في الماء العكر ـ توظيف النقد لغايات وأهداف بعيدة عن مصالح الوطن ـ مزج وخلط الأسباب والنتائج ومسارات الأحداث الإقليمية بالمحلية .... وللحقيقة وجه واحد لا وجهان ومن أجل ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال لي الحقيقة والدوران من حولها دون أن نلامس الوتر الحساس فيها, وإلا لكانت الكتابة أشبه بمن يزرع في صحراء قاحلة لا ماء فيها, وقد مللنا وأصابتنا التخمة من الألغاز والرموز والإشارات العامة وأنصاف الحلول والمحاذير التي يضعها الكاتب في حسبانه قبل أن يخط أي عبارة وكلمة في نصه, وتعبنا من النفوس والعقول التي كثيرا ما تحمل الكتابات ما لا تحتمل من التأويلات والتفسيرات المتعددة, وضقنا ذرعا من التلميحات والتصريحات الموجهة في حقيقتها إلى جزء صغير وعضو محدد من الجسم فيضطر كاتبها إلى إشراك الكل والزج بالمجموع خوفا من العواقب ومن غضب الجزء وردة فعله ... لقد حان الحين وآن الأوان ليقول الكاتب كلمة حق واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض يكتنفها وأن يتعامل القلم مع شؤون الوطن بالصدق والشفافية والموضوعية واقعا ملموسا لا عبارات مصفوفة وشعارات براقة, وأن تهدف الكلمة إلى صلاح الوطن وخدمة المواطن والارتقاء والتقويم والتطوير والتصحيح، وأن يصبح للشأن العام وللمجموع وللمضمون الأولوية على ما عداها. لقد عانى الوطن وتضرر المواطن من ثقافة الخطابين والوجهين, من التصفيق الماكر والابتهاج الظاهري والثناء المفرط والإطراء المصطنع أمام الكاميرا, من العنتريات وكلمات التشكيك والذم والشتم من وراء الكواليس ومن خلف الأبواب المغلقة, وهي أساليب تعافها النفس الأبية في حين أن فئة عابثة أتقنتها وتفننت في أدائها, بل وتعمل على الدفاع عنها وتسويقها بزعم أن المصلحة الخاصة تقتضيها والظروف المحيطة تتطلبها, وهو فكر مادي خالص يخدم الفرد على حساب الجماعة والجزء على حساب الكل، وهو نهج يؤدي إلى تراكم الأخطاء وتواري الأصوات المخلصة وغياب صوت الحقيقة واختلاط الأمور وازدواجية المعايير. مشاهد وصور كثيرة وواسعة تعبر عن هذا الواقع تتجسد في خطاب المرؤوس مع الرئيس, المواطن مع المسؤول, الزميل مع زميله, والمسؤول مع قرينه ....
لقد أدت الحساسيات المفرطة, واعتياد حاسة السمع عند بعض المسؤولين في بلادنا على الإصغاء إلى عبارات التبجيل والتقديس والإطناب المفرط والتنزيه عن ارتكاب الأخطاء وتفشي بعض السلوكيات الخاطئة التي تم التطرق إليها في الفقرة السابقة من المقال, إلى غياب النقد الموضوعي والرؤية السليمة للأمور والوضوح والصراحة في الأحاديث المباشرة, وإلى تسفيه وإهمال الآراء والمقترحات البناءة, خاصة في حال اتسامها بالتشكيك في أوضاع قائمة أو انتقاد أفراد بعينهم أو عند كشفها عن أخطاء سابقة, وما يسفر عن ذلك من نتائج وتفسيرات وتأويلات عديدة قد تكون جميعها بعيدة عن الواقع والحقيقة, وفي طرح الكثير منها والتدليل بها دروس وتأكيد وسعي إلى التصحيح وتجنب الأخطاء والمشاكل.
إن المتتبع للكثير من الحوارات والمناقشات التي تتم مع ذوي الاختصاص وأصحاب الشأن في المسائل والقضايا ذات الصلة بالوطن والتي تدخل في نطاق اختصاصهم, والمتأمل في الكتابات والمساهمات التي تنشر وبعض البرامج الهادفة والدعوات المطالبة, نرى أنها تكشف عن خطابين تتعمق الهوة بينهما, خطاب ينشد الوضوح ويحرص على النقد الصادق المتسم بالإخلاص إلى الوطن والمجتمع, ويسعى إلى إصلاح وتقويم إداري وتعليمي واقتصادي واجتماعي ... وآخر ما زال على وضعه التقليدي الذي يتصف بالغموض واستخدام العبارات والمصطلحات العامة المكررة والمبتسرة التي تبتعد كثيرا عن ملامسة مضمون المسائل المطروحة وتخرج عن جوهر القضايا ودقائق المواضيع, ويعمد إلى أن تبقى الأوضاع على حالها دون تغيير يذكر أو تطوير ينعش, ويدافع دفاع المستميت بمبررات وحديث عفا عليه الزمن ولم يعد يقنع أحدا مع كل أسف.
إن بعض السلوكيات الاجتماعية الموروثة وعناصر الفكر المادي المستوردة التي امتزجت وتغلغلت في مجتمعنا أدت إلى ظهور مجموعة من السلبيات التي ينبغي التنبه لها ومحاربتها قبل أن يستفحل أمرها وقبل أن نفقد الحقيقة ونبتعد عن الواقع ونخسر المبدأ والثوابت. إن ظروف المرحلة وتحدياتها الكبيرة وتهديداتها العميقة وما يشهده محيطنا الإقليمي من أحداث وتقلبات وفوضى عارمة وما يقدمه من دروس متعددة, والنمط العام في السلوك والتفكير والمتطلبات والطموحات لدى الأجيال الجديدة, والطفرة الشاملة التي تشهدها وسائل التواصل, تتطلب منا الجدية والوعي والمسؤولية والتطوير في التعامل مع قضايا الوطن وأحداثه وتبني قيم الوضوح والصراحة والتواصل المباشر والمستمر مع المجتمع بمختلف شرائحه والتنسيق بين مختلف مؤسسات الدولة وقيام كل فرد بواجبه تجاه وطنه والبعد عن الاستفراد باتخاذ القرارات ....