[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
لا يزال الغرب الإمبريالي الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة يقدم نفسه إلى شعوب العالم على أنه المخلِّص والمُنقِذ من أزماتها والأخطار التي تتهددها، مستخدمًا في ذلك آلته الإعلامية الجبارة متخذًا منها ليس منبرًا فقط يتنافس على خشبته القادة الغربيون في إلقاء خطبهم العصماء وكلماتهم العاطفية المنمقة، وإنما جعل من هذا المنبر الإعلامي والدعائي معامل ومختبرات لغسل أدمغة الشعوب وتغييب وعيها، وتزييف الواقع وتزيينه في عقول المغسولة أدمغتهم وقلوبهم، فسار على خطى فرعون في عصره حين خاطب الناس بقوله: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
ولأن ذاكرة سواد من الناس ضعيفة كذاكرة السمك، لم تعد تفرق بين من هو مخالب قط في مأساتها، وبين من هو منافح عنها وعن مصالحها وسبب سعادتها، يرى أصحابها في الغرب الإمبريالي الاستعماري خشبة خلاصها، وأنه الطرف الأوحد القادر على الإنقاذ، ولعل الشعب الأوكراني واحد من بين تلك الشعوب المستهدفة بغسل الأدمغة كمقدمة لإنهاكه وشرذمته وإتعاسه، وهو بذلك لا يختلف عن شعوب الشرق الأوسط أو الشعوب العربية التي تعرضت لأكثر من ستة عقود لخضَّات ومحاولات مستميتة لغسل الأدمغة وتشويه الحقائق وزرع بذور الفتن والبغضاء والفرقة والكراهية بين مختلف مكوناتها، فتحولت مادةً لرحى المؤامرات والدسائس ومشاريع الاستعمار والتفتيت والتدمير، ووقودًا لآلة الحرب في مواجهات الخصوم.
اليوم لا يمكن لكل متابع ومنصف أن يفسر ما يجري في أوكرانيا خارج إطار تآمر الغرب الإمبريالي الاستعماري وخطط توسعه وانتشاره في مواجهة الخصوم وأولهم روسيا الاتحادية التي أراد الوصول إليها ومحاصرتها بالعبث في حديقتها الخلفية المتمثلة في أوكرانيا، لأسباب معروفة ومفضوحة وهي الانتقام من روسيا ودورها في غرز عجلات المشروع الصهيو ـ غربي للهيمنة على المنطقة وإعادة رسم خريطة المنطقة وفق مصادر ثرواتها، وذلك بدعم روسيا حليفتها التاريخية سوريا التي على حدودها غرز المشروع.
وفي تناقض واضح وانكشاف مفضوح بين ما يدَّعيه الإمبرياليون الاستعماريون الغربيون من حماية للديمقراطية والحريات ونشر لها وحماية لحقوق الإنسان ومحاربة للظلم والفساد، وبين التوظيف الفعلي لها وجعلها أداة لأغراض سياسية واستعمارية، شطرت أوكرانيا إلى شطرين غربي وشرقي، فكان صوت المدافع والصواريخ ومشاهد القتلى والدماء والدمار المتحكم في المشهد الأوكراني وسط رعاية أميركية واضحة لتأجيج الصراع بين الإخوة والأشقاء الأوكرانيين، واتخاذه وسيلة لمحاربة روسيا وإضعافها وتوجيه أصابع الاتهام إليها في الجريمة التي اتخذها الأميركي مدخلًا مناسبًا ليجعل من أوروبا "بيبي أميركا" مركوبًا في مواجهته روسيا وإيقاع العقوبات الاقتصادية رغم ما تعانيه اقتصادات أوروبا من ركود وتراجع وتزايد أعداد العاطلين عن العمل.
وعلى الرغم من الأزمة الحقيقية التي تعانيها الاقتصادات الأوروبية فإن دول الاتحاد الأوروبي للأسف، لا ترفض أن تكون مركوبًا دائمًا للولايات المتحدة ومطية للأنانية الأميركية، ولا يريد الوعي الأوروبي أن يستفيق من سباته أن الولايات المتحدة في معارك مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية لا تؤمن بشيء اسمه حليف وصديق حتى تكون أساسًا مخلِصةً وأمينةً له. فهناك الكثير من الدلائل على أنانية الولايات المتحدة تجاه من تقول إنهم حلفاؤها وأصدقاؤها وأنها معنية بالدفاع عنهم وعن مصالحهم، ومن بينها:
أولًا: إن العقوبات الاقتصادية الأخيرة التي فرضتها روسيا ردًّا على عقوبات أوروبا التي جاءت بأوامر واضحة من سيدها الأميركي كان المتضرر منها بصورة كبيرة الزارع والتاجر والصانع الأوروبي وليس الأميركي، حيث وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسومًا بحظر وتقييد معظم المنتجات الزراعية، كما لوحت موسكو بإغلاق المجال الجوي أمام شركات الطيران أثناء قيامها برحلات بين أوروبا وآسيا عبر سيبيريا وهي الطريق الأقصر، مؤكدةً استعدادها لفرض مزيد من العقوبات لتشمل قطاع السيارات وقطع غيارها إذا ما تمادت أوروبا وانبطحت أمام نزوات الأميركي وشهواته.
ثانيًا: على الرغم من الغضب العارم من تعطيل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تسليم أول حاملة طائرات مروحية من نوع "ميسترال" لروسيا، فإن الرئيس الفرنسي بدا منقادًا خانعًا للسيد الأميركي، مقدمًا شهادات تبعيته وخدمته لسيده بدلًا من مصلحة اقتصاد بلاده والحاجة الماسة والفعلية لأي فرنك أو دولار لأولئك الكادحين والمستثمرين الفرنسيين، بينما اكتفى الأميركي بالتصفيق والثناء على القرار "الشجاع" و"الحكيم" للرئيس هولاند.. وفي دلالة واضحة على مدى التبعية المطلقة للسيد الأميركي، لمَّح الرئيس الفرنسي هولاند إلى إمكانية تراجعه عن قرار تعليق تسليم حاملة الطائرات لموسكو بالنظر إلى المعطيات على الأرض بين روسيا وأوكرانيا، ونجاح وقف إطلاق النار الموقع بين كييف وأنصار الفيدرالية الأوكرانيين.
ثالثًا: التدخل القوي من قبل السيد الأميركي ضد التابع الفرنسي حول "الهبة السعودية" المقدرة بثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني، ومحاولة الأميركي الظفر بالكعكة، وقد قام الأميركي بإسالة لعاب اللبنانيين بتحويل مسار الثلاثة مليارات إلى واشنطن بدلًا من باريس من خلال ما أسماها الأميركي "الهبة" الأميركية المتمثلة في بنادق متواضعة أشبه ببنادق صيد، وقاذفات هاون قصيرة ومتوسطة المدى، في حين أن الوجهة اللبنانية وربما حتى السعودية منذ البداية تتجه إلى فرنسا لتسليح الجيش اللبناني في مواجهة العصابات الإرهابية التي تتربص بلبنان واستقراره.
وعلى الرغم من هذا الواقع المرير للاقتصادات الأوروبية ووسط الأنانية الأميركية، فإن سفراء دول الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين أقروا مساء الجمعة الماضية في بروكسل، عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا بزعم تعرضها لسيادة أوكرانيا، رغم التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار بين القوات الأوكرانية وأنصار الفيدرالية الموالين لروسيا، وهو ما رفضته موسكو مهدِّدةً بأنها سترد إذا ما اشتهى الأوروبيون ركوب الأميركي لهم. وإن كان ثمة صوت معارض بدا من داخل أروقة الاتحاد تمثل في سلوفاكيا والتشيك في فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا وتلويحهما باستخدام حق النقض.
وفي جوهر الأحداث، يمكن القول إن الأميركي في حرب الهيمنة والسيطرة وهوس التفرد بقيادة العالم استطاع أن يفجر القنبلة الأوكرانية في وجه خصمه الروسي الساعي إلى التعددية القطبية واحترام القانون الدولي، مجيِّشًا "أي الأميركي" تابعيه الأوروبيين في ذلك، مثلما نجح في إنتاج "دواعش الإرهاب" في المنطقة لمطاردة خصومه الروس والصينيين وتجييش توابعه وخَدَمِه وعملائه في معركته هذه.