المشكلة الأساسية في المنطقة الآن أن هناك حربًا حقيقية على مستوى الإقليم كله بين الإسلام السياسي والقوى الأخرى، تقليدية وحديثة، وما فيلم "داعش أفندي" إلا جزء من هذه المعركة الكبرى. فهي إحدى أدوات إنفاذ سيناريو سخيف: أمامكم خياران، إما جماعات إرهابية تشوه الإسلام والمسلمين، وإما إسلام "معتدل" يمثله الإخوان يحكمون في دول المنطقة.

يذكرني الرعب الذي تثيره الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق، وفي المقدمة منها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) والتهويل الإعلامي المصاحب له بأفلام الأبيض والأسود التي كانت بداية "أفلام الأكشن". فلا يمكن تصور أن يجتمع العالم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه ليبحث كيف يواجه "تنظيم الدولة" بعدما سيطر على مناطق من العراق وسوريا و"فتحها على بعضها" دون أن يستدعي المرء أفلام الأبيض والسود. لكن المصيبة أن هذا واقع وليس خيال سينما، كما أن "داعش" تستخدم أحدث التقنيات في التصوير ـ وليس الأبيض والأسود ـ بالألوان والدقة العالية (اتش دي). وبالطبع يعاني سكان المناطق التي تسيطر عليها تلك الجماعات من عنف وإرهاب واقعي وليس خيالا. ومن الصعب تقديم تفسير محدد وصارم حول ظهور تلك الجماعات الدموية، دون الرجوع إلى بقية التنظيمات العنيفة التي خرجت من عباءة الإخوان في السبعينيات والثمانينيات، وكانت الرافد الرئيسي لحركات "الجهاد" والعنف الديني منذئذ.
المشكلة الأساسية في المنطقة الآن أن هناك حربًا حقيقية على مستوى الإقليم كله بين الإسلام السياسي والقوى الأخرى، تقليدية وحديثة، وما فيلم "داعش أفندي" إلا جزء من هذه المعركة الكبرى. فهي إحدى أدوات إنفاذ سيناريو سخيف: أمامكم خياران، إما جماعات إرهابية تشوه الإسلام والمسلمين، وإما إسلام "معتدل" يمثله الإخوان يحكمون في دول المنطقة. مثل هذا الطرح، الذي تشجع عليه الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من القوى الغربية والدولية يصادف مصلحة لدى قوة إقليمية مثل تركيا ترى في نموذج حكمها مثالا لما يسمى "الإسلام السياسي" يمكن تعميمه في المنطقة من المغرب إلى البحرين. كما يصادف ذلك هوى لدى إيران التي يهمها ألا تكون "الجمهورية الإسلامية" الوحيدة في المنطقة. ومع إعلان إسرائيل "دولة يهودية" فمن المنطقي ـ غربيا ـ أن يكون الشرق الأوسط بؤرة "حكم ديني"، إذا صح التعبير. ولا غرابة إن أصبح ذلك مقدمة لظهور "كانتونات" مسيحية أيضا في بعص الدول التي بها مسيحيون بنسبة معقولة.
لكن هل يحرص الغرب على حكم الإخوان لهذا السبب فحسب: دينية الحكم؟ بالطبع لا، فهناك ما هو أهم ولم يحققه ما وصف على أنه "الربيع العربي" من عمليات تغيير في بعض دول المنطقة. فهناك مراجعة أميركية ـ وغربية عموما ـ لعلاقتهم مع أنظمة الحكم التقليدية في المنطقة، ويرى تيار معقول أن تلك الأنظمة "الصديقة" استنفدت أغراضها. ولم تحدث عملية التغيير الاحتجاجي نقلة تأتي بأشكال حكم جديدة يمكن "التعاون" معها. وبما أن الإخوان "يتسولون" العلاقة مع أميركا والغرب منذ عقود، فلن يجد هؤلاء أفضل منهم لإنفاذ مصالحهم. وفي ظل ما هو واضح من "فك ارتباط" أميركي مع العالم، يمثل الإخوان أفضل وسيلة للوكالة المحلية. ففي النهاية، يستطيع الإسلام السياسي أن يجعل شعبه "يبلع" أي شيء استنادا إلى غطاء ديني. أما التبرير الذي يساق هنا فهو في غاية الغرابة والسذاجة المصطنعة التي تميز رجال أجهزة المخابرات: إن الإسلاميين لم يجربوا في الحكم بعد، فلنجربهم!
ومنذ فقد الإخوان حكم مصر، وقد كان خطوة أساسية في عملية وصولهم إلى السلطة في بقية بلدان المنطقة، والمنطقة تغلي بصراعات تزداد حدة ولا يخلو أي منها من عنف مرتبط بالدين. ولا يقتصر الأمر على فقدان الإسلام السياسي حكم دولة كبيرة في الإقليم مثل مصر، بل يتعلق أساسا بالاستراتيجية الأوسع التي تلقت ضربة قاصمة وهي سيطرة الإخوان وأمثالهم على بقية الإقليم. وربما تصورت القوى المناوئة للإخوان، وللحكم الديني عموما، أن تلك الضربة ستضعف الإسلام السياسي وتعيده إلى حيث كان بحيث يمكن احتواؤه أو التعامل معه كما كان الأمر في السابق ضمن نظام ما. إلا أن هذا التصور يتسم بقصر نظر، فما حدث ـ وبغض النظر عن العوامل الخارجية، الإقليمية والدولية ـ كان تحولا جذريا يصعب الرجوع عنه. بمعنى أن الإسلام السياسي وصل إلى مرحلة لا يمكن العودة عنها، وهي توليه السلطة ولم يعد أمامه خيار سوى أن يسيطر على السلطة أو ينتهي تماما وإلى الأبد. فالجماعات التي استمرت لثمانية عقود تسعى من أجل ذلك الهدف ليست قادرة الآن على العودة إلى العمل من خلال أي نظام لتوسيع قاعدتها ومحاولة الوصول إلى الحكم عبر برلمانات أو غيره.
هذا التحول الجذري الذي مر به الإسلام السياسي هو من بين العوامل المغذية للعنف الدموي الذي يسود المنطقة. ولنأخذ سوريا على سبيل المثال، فقد كان الإخوان في بداية الصراع يهيمنون على ما تسمى قوى المعارضة وبعدما فقد إخوانهم في مصر كرسي الحكم تراجع دورهم، بل وتراجع دور المعارضة عموما باستثناء الجماعات الإرهابية. والآن، وضمن السيناريو الغربي/الإقليمي الداعم لحكم الإسلام السياسي لن يستفيد من الحرب على تنظيم الدولة سوى الإخوان ولو بالتفريغ السلبي. والأزمة الحقيقية هنا أن المشاركين في فيلم "داعش أفندي" من القوى الإقليمية المناوئة للإخوان تسهم بشكل غير مباشر في التهيئة للسيناريو الذي تخشاه هي ذاتها.

د. أيمن مصطفى
كاتب عربي ـ لندن